دعا فضيلة العلامة الحبيب علي الجفري إلى الابتعاد عن الغلو والتعصب لرأي البعض من أهل العلم، مع تجاهل رأي من لم يوافق الهوى منهم، مؤكداً- بشأن الجدل الدائر حول تهنئة المسلمين لأهل الكتاب في أعيادهم، كمولد السيد المسيح- جواز تقديم التهنئة وجواز الامتناع عن ذلك. وقال الحبيب الجفري: "فمن شاء أن يأخذ بأدلة من قال بالجواز فهم أئمة هدى لا سيما إن كان قصد الآخذ بذلك مرتبطاً بخدمة الإسلام والتعريف بتعاليمه ونشر هديه السمح. ومن أراد أن يأخذ بفهم المانعين للنصوص فله أن يمتنع بأدب، شريطة ألا يجبر الناس على ذلك، وألا يدعي انه الإجماع والمتفق عليه". جاء ذلك في مقال له – تلقت "نبأ نيوز" نسخة منه- نورد نصه فيما يلي: والسلام عليّ يوم ولدت ... الحبيب علي الجفري الحمد لله، في أعقاب قيام علماء مسلمين بإرسال رسالة تهنئة للمسيحيين بمناسبة عيد ميلاد سيدنا عيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كثر لغط حول شرعية هذا العمل، وثار جدل بشأن كونه صواباً أو خطأ، مما يدعو إلى ضرورة تبيين أن مسألة تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم ومسألة السلام عليهم هي من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم. وان دعوى الاتفاق على التحريم باطلة. والنص الذي ذكر فيه الحافظ ابن القيم رحمه الله الاتفاق على التحريم هو مقيّد بالأعياد الخاصة بكفرهم إذ يقول: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق". إذاً فكلامه يدور حول الأعياد المختصة بكفرهم. وقطعاً ليس ميلاد السيد المسيح منها، فهو مختلف على سبيل المثال عما يسميه المسيحيون بعيد القيامة، الذي يعتقدون فيه معتقداً يخالف ما ذكره الله في كتابه. والتهنئة التي يثار حولها الجدل هذه الأيام قد أرسلها كبار علماء المسلمين، منهم الشيخ البوطي والشيخ ابن بيه والمفتون من مصر وسوريا ولبنان واليمن والبوسنة، ومن مختلف مذاهب السنة الأربعة، ومن الزيدية والاثني عشرية، من كثير من البلدان فكيف تصح دعوى الاتفاق على المنع؟ وأما حكم المسألة فقد ذكر أهل العلم فيها تفصيلاً فرقوا فيه بين الأعياد المخالفة للعقيدة والموافقة لها، وذكرى مولد السيد المسيح عليه السلام قد تقاس على ذكرى نجاة الكليم موسى عليه السلام الذي وافق النبي اليهود على الفرح به وقال: "نحن أولى بموسى منهم" (صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن). بل يزيد يوم مولد السيد المسيح وهو من أيام الله "وذكرهم بأيام الله" على يوم نجاة الكليم بتخصيص القرآن لمولده بالسلام "والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (مريم: 33). كما فرّق العلماء بين فضيلة البر بمن لم يقاتلونا في ديننا منهم، الذين قال الله فيهم "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" (الممتحنة: 8). وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفاصلها؟ قال: "صلي أمك"، وبين ارتكاب خيانة الموالاة لمن قاتل المسلمين وأخرجهم من ديارهم قال تعالى: “إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون” (الممتحنة: 9). وفرقوا كذلك بين مشاركتهم صلواتهم في كنائسهم بالعبارات التي نعتقد مناقضتها للتوحيد ومشاركتهم أسواقهم التي يقيمونها في مناسبات أعيادهم الدينية، كما نقل الشيخ ابن تيمية نفسه ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في الاقتضاء: “وقال الخلال في جامعه: باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين، وذكر عن مهنا: قال سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون ويشهدون الأسواق ويجلبون الغنم فيه والبقر والرقيق والبر والشعير وغير ذلك، إلا أنهم إنما يدخلون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم (كنائسهم)، قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق فلا بأس”، اقتضاء الصراط المستقيم 1/202. على أن دخول الكنائس من قبل المؤهلين بمقاصد حسنة لا يمكن القول بمنعه، وقد دخل سيدنا عمر كنيسة القيامة في القدس ولم يصلِّ فيها الظهر لكيلا يحتج بعده بعض المسلمين فيطالبون بتحويلها إلى مسجد. كما أن مسألة إلقاء السلام على غير المسلمين قد اختلف فيها فقهاء الصحابة والسلف الصالح، فمنهم من منع ذلك أخذاً بإطلاق حديث مسلم "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام". ومنهم من تأوّل الحديث وجعله من السياسة الشرعية في التعامل مع من يجعلون إلقاء السلام سبباً للفتنة وإنفاذاً للكراهية من قِبَل يهود المدينة، إذ كانوا يجيبون سلام المسلمين بقولهم السام عليكم، أي الموت، يتمنون بذلك موت المسلمين، وهو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم، السام عليك فقل: عليك". ومن الصحابة وأئمة السلف من لم يروا بأساً من ابتداء غير المسلمين بالسلام. فقد ذكر القرطبي أن عدداً من السلف فعل ذلك، ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه، والحسن، والنخعي، كما ذكر ابن حجر في الفتح أن أبا أمامة رضي الله عنه، وابن عيينة فعلا ذلك أيضاً. وذكر أن الطبري أخرج بسند جيد عن أبي أمامة أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له، فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام. وقد صحح الحافظ ابن حجر رواية الطبري عن علقمة قال: "كنت ردفاً لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم، فقلت: ألست تكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم ولكن حق الصحبة". وقد ذكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله وهو حجة عند من يتعصب للمنع في المجلد الأول من كتابه “الجواب الصحيح” وجهاً للحاجة إلى مجادلة أهل الكتاب الذين أمرنا الله بمجادلتهم بالتي هي أحسن، وضمّن هذا الوجه عبارة مهمة في فهم حاجتنا إلى الحوار في الأحداث المعاصرة التي يتكرر فيها النيل من مقدساتنا بالتجريح والتشويه والاتهام بالعنف والعدائية والعجز عن الإقناع، حيث يقول: “الوجه الثامن: إن كثيراً من أهل الكتاب يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهدى والعلم والآيات فإذا طلبوا العلم والمناظرة فقيل لهم ليس لكم جواب إلا السيف كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب وكان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام وأنه ليس دين رسول من عند الله وإنما هو دين ملك أقامه بالسيف”. وأخيراً، دعونا من الغلو والتعصب لرأي البعض من أهل العلم، مع تجاهل رأي من لم يوافق الهوى منهم، فمن شاء أن يأخذ بأدلة من قال بالجواز فهم أئمة هدى لا سيما إن كان قصد الآخذ بذلك مرتبطاً بخدمة الإسلام والتعريف بتعاليمه ونشر هديه السمح. ومن أراد أن يأخذ بفهم المانعين للنصوص فله أن يمتنع بأدب، شريطة ألا يجبر الناس على ذلك، وألا يدعي انه الإجماع والمتفق عليه. ولله درّ الإمام الأوزاعي الذي نقل عنه الحافظ في الفتح قوله: "إن سلّمت فقد سلّم الصالحون وإن تركت فقد تركوا". فهل من مدّكر؟