باريس: منى العوامي منذ نعومة أظافرها، وفي ركن صغير داخل الغرفة، كانت تزاحمها عليه شمس مدينة "الباحة" جنوب المملكة العربية السعودية، وكانت تطلق عنان أناملها وتعبث بخصلات شعرها، فيرسم الظل أشكالاً تجذبها للضحك تارة، أو للهمس، أو للتفكير طويلاً تارة أخرى.. حتى إنسلت من بين أصابعها وجوه الفن، ومتعة إبداعٍ ما كانت لتكتشفها، لولا أن للفن موعد ولادة لا شيء في الدنيا يمنعه من أن تدب في عروقه الحياة!! كبرت "آمال معجب الزهراني"، وما زالت شمس الباحة تزاحمها في نفس الركن، غير أنها صارت فنانة، وباتت تعشق ضوء الشمس لأنه يجمع كل الألوان، ويطرز كل الجدران، ويعبث معها في كل مكان... فقد تمالك "آمال" هوس البحث في مكتبة والدها عن أي كتاب أو مجلة تصقل بها موهبتها، وتروي ظمأ التعرف على أصول الفنّ، وحرفة الفنان.. غير أن ضالتها لم تكن في مكتبة أبيها.. لم يجد والدها من حلٍ لإيقاف العبث بأغراضه غير أن يوكل إلى الفنانة التشكيلية "منيرة الموصلي" مهمة صقل موهبة "آمال".. لذلك ما زالت فتاة الباحة تقول: "أعطتني الأستاذة منيرة المفاتيح الأساسية للرسم".. من يومها بدأت آمال بالرسم "الواقعي" مثل (تشريح الجسد، الطبيعة...)، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التقت آمال بالفنانة التشكيلية الفرنسية "مونيك دولي لاكوغ" التي فتحت لها آفاق الفن التجريدي والتقنيات الفنية.. "فتاة الباحة" السعودية، تُعبر اليوم بفرشاتها الرقيقة عن المرأة العربية.. وتملك شخصية فنية عميقة نادرة لا تنفك عن الالتصاق بكل لوحاتها التشكيلية، التي لا نملك إزائها غير الاستسلام للحظات صمت، وتأمل، وإعجاب كتلميذ مبهور بخط معلمته البارعة!! وتتجلى براعة آمال في استخدامها للمسحات اللونية بإتقان ودقة، فتشد المتأمل تماماً، فهي تذكرنا بالانطباعيات الأولى بكل زخمها وحماسها. ولا تخرج الفنانة عن بيئتها، فهي عاشقة لها، ومرتبطة بأهلها وناسها، فها هي تقدم لنا صوراً جمالية زاخرة بالألوان، والتيمات المستوحاة من بيئتها بيئة الجنوب السعودي. "آمال الزهراني"، فنانة تأثرت وانفتحت على جميع المدارس، غير أنها تعتبر نفسها في طور المدرسة التعبيرية.. فقد تأثرت بشكل مباشر بالفنان اللبناني وجيه نحلة، والفنان النمساوي كليمت، وشاركت بعدة معارض منها: المعرض الأول عام 1998م والذي كان موضوعه الأساسي (البراويز). وفي صيف 2000-2001 درست دورة في دار الفنون العليا بباريس، بعد ذلك أقامت معرضها الثاني سنة2002م، وقد تضمن المعرض العديد من الموضوعات منها (فلسطين، العراق، نسائي الأحرار...). تلى ذلك معرض عام 2007م لاهارماتان، وهو معرض جماعي أقيم في الحي اللاتيني بباريس.. وشاركت أيضاً في 2007 في يوم ملتقى الطلبة السعوديين بفندق نوفوتيل بباريس بعدة لوحات فنية. أما معرضها الأخير فتزامن مع اليوم الوطني السعودي بباريس حيث شاركت ب20 لوحة فنية بعنوان "نساء جنوبيات".. هذه اللوحات كما هو واضح من العنوان تمثل انطباعات الفنانة عن أوضاع المرأة في الجنوب السعودي، أو لنقل إعادة تكوين لوضع المرأة في تلك البقعة، مهد الفنانة. هذه اللوحات التي يمكن مشاهدة بعضها في تقرير "نبأ نيوز"، هي بنات أفكار الفنانة، رسمتها أنامل إنسانة موهوبة تدرك ماهية الفن الذي تقدمه، ولها فلسفة في التشكيل تطغى عليها موضوع المرأة. الفنانة آمال لخصت هويتها الفنية بهذه العبارات: "صحيح أن المرأة موجودة في غالبية لوحاتي، ويعود هذا أولاً لأني امرأة، وبالتالي فني هو صوتي، فأنا أتكلم العربية، ولكني اصرخ بريشتي وألواني، وهذا بالنسبة لي محاولة لإيجاد توازن بين العنصرين الذكوري والأنثوي.. الرجل قليل في لوحاتي ومعظم رجالي رقيقين، وهذا تعطش إلى صفات نفتقدها في الرجل.. وأحاول في لوحاتي التي يوجد بها رجال استثارة العنصر الأنثوي المكبوت في الرجل الشرقي الذي يكبته ويحاربه ويقهره.. وقد تكون أيضاً محاولة مني لأن ترقى المرأة بوضعيتها دون أن تنتظر رحمة أو شفقة من الرجل...". عندما فكرت بكتابة هذه المادة ل"نبأ نيوز"، كان السؤال الذي يحيرني هو: لماذا يدعون أن النساء السعوديات لا يحضين بفرص انفتاح، أو تعليم راقي؟ فهذه هي الفنانة آمال معجب الزهراني طالبة دكتوراه في قسم علم النفس في جامعة "السربون" بباريس، وهي إحدى المتميزات اللواتي بدأن طريقهن بثقة ليس في التعليم وحسب، بل وفي الإبداع أيضاً، لتصبح اليوم فنانة- بل هي "نجمة" سعودية تتلألأ في سماء الفن التشكيلي. ولا عجب، فوالد الفنانة آمال هو الدكتور معجب الزهراني، الشاعر والناقد السعودي المعروف، والذي يعمل حالياً مدرساً بجامعة السربون، وكان له فضل كبير في صناعة إبداع إبنته، وصقل موهبتها. وبعيداً عن القصة الشيقة لانفتاح أسرة الزهراني، وثرائها الثقافي، كأسرة عربية تعتز وتفاخر بتراثها العربي السعودي، فإنها أتقنت أيضاً القيم الأوروبية الجميلة في حالة نادرة من التزاوج "الشرعي" بين الانتماء للأصالة والحداثة.. فكانت آمال الزهراني ثمرة استثمار علمي، يجذبك فيه كثير من الجمال الإبداعي، وإرادة التكوين الذاتي للشخصية! أما عن العلاقة بين الدراسة والفن، تقول آمال: "أن علم النفس بالنسبة لها هو مفتاح الانطلاق، لذلك فهي تدرس العلاج بالفن (علم العلاج النفسي بواسطة الفنون)، الذي ساعدها بشكل كبير.." آمال التي تشكر أسرتها لدعمهم لها وعلى ما بذلوه من أجل تهيئة أفضل الظروف للإنتاج والإبداع الفني، تشعر بالاعتزاز والفخر بكل الفنانات التشكيليات في الخليج "لأنهن استطعن أن يصلن إلى مستويات راقية في الفني التشكيلي وكونهن أحرار تماماً فيما يرسمن على الأقل". وتأمل أن تتمكن في المستقبل أن تتمكن من العرض في أكثر من دولة، وأكثر من صالة.. وتأمل أيضاً أن تزور اليمن مرة ثانية في الفترة القادمة لتثري خيالها الإبداعي بسحر بلاد السعيدة!! هذه اللوحات- التي التقطتها عدسة "نبأ نيوز"- تحمل في طياتها رموز متناغمة، ودلالات ساحرة، يصعب فك شفرتها، لأنها صنع فتاة شرقية مسافرة نحو رؤى وملامح باريسية.. فمشوار أسرة معجب الزهراني مثلها مثل الإبداع الذي يبرز من لوحات آمال في محاولة لتجاوز الواقع المؤطر نحو أفق أكثر اتساعاً..