قصة قصيرة.. لطالما حلم أن تفتح الدنيا ذراعيها، فهذه أول مرة يتجاوز فيها اهتماماته الصغيرة لينظر إلى الحياة الجديدة والواعدة ولكن من خلال نافذة الهجرة. لقد تمثل له الخارج في صورة منارة يشع النور منها وراح من دون أن يدري ليرسم لنفسه ملامح ذلك المصير الجديد. ارتسمت على شفتيه ابتسامة تنمي عن فرحة مجهولة وراحت الدنيا تلبس اللون الوردي، كاد يجن من الفرحة وهو ينزل لأول مرة ليحط قدميه على مطار الهيثرو في لندن ومن زهوه تلبس ثوب التقدم ولم يعتد عليه بعد، وقف في الطابور وكأنه اعتاد عليه وما أن وصل إلى ضابط الجوازات حتى قال له معتذرا إن هذا الطابور لحاملين الجوازات الأوروبية فقط وأن عليه التوجه إلى الطابور الأخر، فارتسمت على وجهه ملامح الخجل ومشى وهو يلعن النظام في نفسه. خرج من المطار وهو يحمل حقائبه في يديه وكأنه قد أمسك العالم بيد وأحلامه باليد الأخرى ووقف يتأمل وجوه الناس من دون اكتراث، وبينما هو واقف سمع صوت ناجي يقول "الحمد لله على السلامة" فالتفت ليرى صديقه القديم الذي لم تتغير ملامح وجهه. استقلا السيارة فأخذت تشق طريقها بسرعة وكأنها في سباق مع الزمن وكان الليل قد لبس ثواب السواد ومازال عبده يهيم بالمستقبل الوادع. قطع ناجي حوار عبده مع نفسه قائلا: كيف تركت اليمن؟ ضحك عبده قائلا لم يعد أحدا يطيق البقاء فيها فالحال من سوء إلى أسوء و تنهد ناجي وقال الحياة هنا شبيهة بهناك إن لم ترسم لنفسك طريقا، ولم يدرك عبده ما قاله ناجي ولم يتفوه بشئ. في اليوم التالي سأل عبده صديقه ناجي أن يريه الجالية اليمنية التي طالما سمع عنها الكثير وضحك ناجي ساخرا وقال "أتقصد مجلس القات"!؟ ولم يدرك عبده ما قاله ناجي للمرة الثانية وظن بأن الغربة قد جعلت من كلمات ناجي البسيطة ألغاز وطلاسم يصعب فكها. وما أن وصلا حتى اصطدم عبده بواقع الجالية ولولا أنه موقن بأنه في بريطانيا لظن نفسه في اليمن، فالملامح ما تزال كما هيّ وكأن سنين الغربة لم تنفض عن تلك الوجوه بقايا غبار اليمن. عاد بالذاكرة قليلا للوراء ليرى واقعه الذي كان عليه، فأخذ شريط الذكريات يلف للوراء ويأخذه من مقوات إلى أخر ومن حارة إلى حارة ولولا صوتٍ قطع حبل الذكريات المسترسلة لأستقر به الحال في قريته التي تركها واعدا أهلها بأنه سيعود يوما ليساهم في بناء مدرستها التي لم يكتمل بنائها بعد. رأى الناس تأتي أفرادا وزرافات لتأخذ ربطة القات وتذهب، بعضها يسلم والبعض الأخر مقطب الجبين، وأعطاهم العذر لذلك لأن "تخديرة " اليوم السابق مازالت على وجوههم، وحينها أدرك عبده ما قاله ناجي فغادر وهو يقول لنفسه "ناجي يقول حكم والفطن من أدركها" وهمَّ بالخروج فأتخذ المنعطف طريقا له، وأيقن في قرارة نفسه أنه لن يعود إليه أبدا وغيبه ذلك المنعطف إلى الأبد.......... [email protected]