هاهي المدينة الثكلى بي، أحتضنها أو ربما هي تحتضني، المهم أنني أمرغ انفي رغم أنفي في أجوائها المعبقة بالغبار، أحفز نفسي بجدارة على أن غداً سيحمل شيئاً جديدا، فغداً سوف أجري مقابلة أخرى، وغداً الأمل مشرقٍ كالشمس كل صباح. الوجوه تحمل نفس الملامح التي كتبت عنها، خربشت فيها كثيراً دون أن يشعر أصحابها أنني أرسم خطوطاً لست ادري ما نهايتها على تلك التقاسيم، ا لتي بعضها يبدو قاسيا، وبعضها متعرجاً كتعرجات وديان قرية أبي الصغيرة في ربوع جهة أخرى من هذا الوطن. لم تكن صنعاء مدينة الأحلام، فهي مدينة تتدفق منها الجراح، والدماء، والفقر المشبع بالجوع الشديد، قاحلة، مالحة، لا تحمل الأقدام إلا مرغمة، كأنها تئن وتجعل من يعبر عليها يشعر بالتخمة من الأنين، ليأتي آخر الليل فتلبس حلتها السوداء المرصعة بألوان تضيء من نوافذ بعض المنازل التي ربما الناس داخلها أثقلهم النوم فصاروا يسهرون الليل، ويتجرعون ذل النهار في النوم الطويل. " شارع الستين"، شارع من شوارع صنعاء المشهورة بأنها واسعة جداً، أقصد على قدر اتساع المدينة ويؤدي الشارع بالضبط إلى مدن صغيرة، مستعمرات صغيرة يسكنها المترفون، الذين لا يلعقون الرمل مثلنا كل صباح، والذين لا يشتمون الغبار الذي ينطبع على وجوههم حين انتظار الباصات التي تقلنا إلى المؤسسات التي ربما نخرج منها بفائدة. وربما نعود منكسي الرؤوس لأننا فشلنا في اقتحام بواباتها التي تزدحم بالوافدين والمنتظرين منذ شهور على أبوابها الحديدية، والتي بعضهم أصبح له فيها ركن صغير يأوي أليه كل ليلة، حتى مطلع الشمس يبدأ بالوقوف في طابور طويل لا ينتهي إلا بانتهاء الدوام، بعدها يتفرق الجميع آملين في العودة من جديد، حين يخف الازدحام. أرمي نظرة أخرى إلى بنطالي الذي زرعته تحت الفراش كي يبدو أنه مكوٍ بعناية فائقة، أتذكر حين جاء به إلي صديقي القريب مني جداً، عندما علم أنني مقدم على مقابلة مهمة قد ترفعني إلى أعلى من مستوى التراب إلى مستوى الازفلت، ولم أنجو من نظرة الحسد على عينيه رغم حبي له وحبه لي، أتذكر أيضا انه كان بنطال أخيه الأكبر منه سناً، ويبدو أن توارث الثياب لدى أمثالنا اصبح شيئاً محتماً علينا. كان أبي رجل يحب المثاليات التي لم تكن تؤكلنا او حتى تشبع جوعنا، وكنا نحن القوم الذي قيل عنهم " قوم يأكلون، لكن لا يشبعون " لطالما تمنيت أن أشبع يوماً، ولو مرة واحدة في حياتي أشعر بالبذخ، عندما كان البعض يتحدث عن التخمة فأتساءل دائماً كيف تكون التخمة!؟ وكنت أقول لنفسي انني مهما أكلت لا أظن أبدا أن معدتي ستشبع من الأكل،ولم أجرب حتى الآن كيف الشعور يكون وأنت مثقل بالتخمة! ومع كل هذا أنصت الى وعد أحد أصدقائي أن يجعلني أعاني منها يوما حين يلتحق بالعمل الذي بقى موعوداً به سنوات طويلة!! وحتى الآن مازال ينتظر! وأنا مازلت آكل الرغيف وأقسم نصفه وأخفيه بين كيس من النايلون ليبقى طرياً ليوم غداً، هكذا علمتني أمي حين غادرتها لأسكن مع بعض الأصدقاء حين انتقلنا إلى الجامعة. لا أدري ما كان يحدو بأبي أن يصرعلى أن آخذ شهادتي الجامعية، كأنه كان يعتقد أن كل الكروش المنتفخة ثمرة شهادة جامعية، أو هكذا خيل له، أو تهيأ لي ذلك حينما كان يصر على أن أكمل الدراسة، رغم أنني كنت لا أملك قيمة الكتب في المدرسة، وكان يتصدق بها علي بعض الذين يعمل لديهم أبي، بعضها تأتي مهترئة، وبعضها علي أن أظل أنقل الصفحات المتساقطة منها من أحد الزملاء في المدرسة، وأدين لتلك الكتابات والنقليات بما أخربط به لكم الآن..!! كان الصباح مشرقاً كعادته، وكنت أعد نفسي لوليمة من الفرح والوليمة في عرف أمثالنا ( علبة ببسي ) كاملة بعد انتهاء هذه المقابلة، التي سعى لي بها رجل من ذوي الكروش، فأبي رجل صالح يخدم الجميع، ويعمل في بيوت رجال يلبسون الخواتم الذهبية على أصابعهم، بينما تتدلى الكرافتات من على كروشهم المنتفخة الكبيرة ! عندما كنت صغيراً كانت أمي تقول لنا إن هؤلاء الذين لهم كروش كبيرة إنما هو خائفون أن يذهب عنهم الأكل لذا يخزنونه داخل بطونهم، وكنت اصدق ما تقوله لنا حتى عرفت أن الكروش هذه تخبئ أشياء أخرى لم يكن لنا بها نحن طاقة. عندما حملنا أبي من القرية إلى المدينة، كادت أمي تطير من الفرحة وهي تتبختر أمام نساء القرية، وتزف لهن خبر سفرها في السيارة إلى المدينة، كن كثيرات يسألنها كيف سيكون شعورها وهي تركب السيارة، وتساءل البعض بسذاجة. " ألا تشعر هذه السيارة بالجوع، والعطش والحر " لم يكن عمري يتجاوز الحادية عشر، كانت أمي كثيرا ما تصطحبني فقد كنت محرمها في كل مكان! منذ سن السادسة وأنا يسموني " رجل البيت " كان أبى يسافر إلى المدينة " صنعاء " ويعود لنا بعد أشهر عديدة محملاً بفاكهة غريبة فنلتم حوله كفئران جائعة. مع هذا كنت أسعد حالاً مما أنا فيه الآن.
لم تكن صنعاء مدينة الأحلام بالنسبة لي، هي قاحلة جداً وليس فيها بقعة اخضرار والدكان الصغير الذي كان يسمى " بيتنا " فيه رائحة تعبق حتى في ملابسنا رغم أن أمي كانت تخرج كل ظهيرة تغسلها لنا وتنشرها لكي تمتص الشمس تلك الرائحة التي لا تغادرمنزلنا وأصبحت لا تغادر أيضا ثيابنا. على أن ألحق بالباص قبل أن يغادرني ولا ألتقى به، اليوم أنا ثري جداً لن اضطر للمشي إلى مكتب المقابلة بل سأستقل الباصات حتى أصل إليه! فقد زودني " محمود " بما يكفى لأن أصل إلى المكان نظيفاً، دون أن يتعبني المشي إليها. وما اكثر السنوات التي جعلت مني أستطيع عبور هذه الشوارع مغمض العينين لكثرة تسكعي فيها وأنا أحاول الهاء نفسي واعتبار المشي رياضة لا يحظى بها الكثير، هكذا كنت أقول لنفسي كل يوم وأنا أحدق في بوابة الكلية من بعيد! كان البنطال واسعاً أو أنني كنت شديد النحول لذا كان يسقط من خصري فأضطر لرفعه كلما شعرت به ينزلق من عظام المنتصف، ليتني استمعت إلى نصيحة " محمود" ولبست حزامه، لكن حزامه كان لا يغري أبدا بلبسه فقد يظهر للذي سيجري المقابلة معي، كم أنا محتاج، وكم أنا متلهف على الوظيفة التي قد يتكرم بها علي! الوجوه نفسها تلهث ! تتنفس الحلم وربما تتنفس الألم! بعضهم يعيش التنفس بصعوبة فيصاب بمرض الربو لأنه عجز أن يتنفس الحلم أو الألم! ها أنا اليوم أرسم ابتسامتي وأوزعها على من حولي كما لم يحدث من قبل، ربما لو صادف ورآني أحد الزملاء من الجامعة لقال أن معجزة حدثت، فنادراً ما تنزرع الابتسامة على وجهي أو حتى داخلي. - شوي يا ابني؟ كان العجوز الذي أراد أن يزاحمني مقعدي يحشر جسده بيني وبين آخر كان يجلس مبتعداً عني بقليل، تمنيت أن يكون هناك مقعد آخر ليجلس عليه هذا العجوز كي تبقى عطفات البنطال مستوية كما أحاول إقناع نفسي وبعد نومي فوقه يومين كاملين ليبدو كما أردت له أن يبدو. لكن علي أن أدرك أن الأمنيات لا توزع هكذا وبسهولة لأي شخص، فالأمنيات محدودة، خاصة في مدينة ك " صنعاء " أو بالأصح يبدو انه لا أمنيات فلم أمد قدمي إلى الباص لأخرج منه حتى تعلقت فتحة البنطال الذي كان واسعاً بمسمار على بوابة الباص، فانشق البنطال حتى الركبة! حنقت، نقمت، شتمت ثم كتمت كل شيء، وعدت لأنتظر في محطة الباص التالية!! لا أريد التفكير بما سيحدث فيما بعد، وهذه المرة لم أكن إلا الراكب الوحيد في الحافلة ! الم أقل لكم " لا شيء يوزع بالعدل أبدا! هاأنذا في صالة الإنتظار...! المقعد الذي جلست عليه بانتظار الذي سيجري المقابلة معي، كان مقعد ناعم ومغر جداً للاستلقاء والنوم فيه عميقاً، لم يحدث أن شعرت بنعومة في جلستي كما اشعر الآن على هذا المقعد الجلدي، بالطبع صرفت نظري عن العيون التي حدقت ببنطالي الممزق، أردت أن اقسم لهم أن البنطال قبل ساعة فقط كان في حالة ممتازة، لكن من سيصدقني؟ ! حاولت أن أبتهج بالجلسة المريحة هذه، وملفي أحتضنه بقوة، يحمل شهادة ثانوية بتقدير جيداً جداً، وشهادة الجامعة بنفس التقدير! هل ترى ستشفع لي هذه التقديرات في الشهادات "الشق في البنطال!!؟ شعرت بأن الذين ينتظرون أيضا مثلي، يشبهوني كثيراً، لهم نفس ملامحي، نفس التقاسيم التي نتقاسمها، كان أحدهم بين كل دقيقة وأخرى يمسح شعره كأنه يثبت الخصلات التي يظن أنها تناثرت من القلق كلما اقترب موعد المقابلة، أدركت أنني لست الوحيد الذي يعاني، وكلنا نعيش في هذا الوطن رغماً عن أنف الوطن! ومدينة " صنعاء " لم تكن مدينة الأحلام.! زحف الوقت وزحفت نفسي إلى النهاية أترقب الساعة على الحائط وكلما مرت دقائقها مررت أنا مثلها، لاشيء كان يشفع لي أمامه، كان منتفخ الكرش،عيناه تشبه عيني ذئب يبدو جائعاً لشيء آخر غير خريج جامعة لايحمل إلا شهادة خرجتْ بعد أن زحف زحفاً حتى حصل على مبلغ إخراجها من الجامعة. لم يقل شيئا، ولم أقل شيئا، همهم وهو يقرأ الأوراق في ملفي، ثم جلس على مقعده وغمغم بشيء كان بيده يبدو انه الذين يقولون عنه الهاتف النقال! نظر إلى بنطالي وأبتسم ابتسامة خبيثة ذكرتني بالرجل الذي كان يعمل لديه أبي حارس في مخزن بضاعته! غمغم للسكرتيرة بالهاتف الثاني، فتحت الباب ودعتني، عرفت هي وعرفت قبلها لكني كنت كالغريق أتعلق بقشة من الحلم الصغير جداً وأعرف أنني سرعان ما أستيقظ على حقيقة وواقع أمر! عدت إلى الدكان أقصد إلى بيتي، كسرت رغيف الخبز نصفين، خبأت نصفه الأخر بكيس من النايلون وأكلت نصفه الآخر... وغفوت أحلم بالتخمة.. في مدينة ك صنعاء...!!