آمن الناس في طول وعرض العالم أن المخترعين والنوابغ هم الثروة الحقيقية للشعوب والأمم إلا في بلدانا العربية والإسلامية فلا زالت تكافأ العظماء بواحدة من ثلاث إما الاعتقال وإما النفي (إجبارياً أو اختيارياً) وإما الإرغام على الجنون اللا إرادي. وفي الوقت الذي نجد أنفسنا كعرب وكمسلمين من أكثر الناس افتخاراً بماضينا التليد وتغنياً بأمجاد أسلافنا وعلومهم و حضاراتهم إذا بنا على أرض الواقع- اليوم- من أكثر الأمم استهانة وهضماً لحق المفكرين والمبدعين والنوابغ. نعيب على غيرنا أنهم كانوا يضطهدون مفكريهم المتحررين في عصر القرون الوسطى في حين نجد بيننا في القرن الواحد والعشرين من لازال يفكر بعقلية القرون الوسطى الأوروبية؛ ولازال يعتبر أكثر النظريات العلمية والتكنولوجية والفلسفات الحديثة مجرد خرافات وأوهام وبدع. المشكلة أن حلفاً مقدساً أو بالأحرى مدنساً نشأ ولازال قائماً بين مصالح أمرائنا وأهواء أكثر فقهائنا حتى صار بمثابة الموجه والمسير لتصرفات غير عقلانية وغير منطقية وغير شرعية تصدر عن هذا الثنائي المتسلط. إلى أن فقد الدين هيبته وقدسيته من قلوب الكثير بفعل من يستغله بغية الوصول لأهوائه وغاياته الشخصية أو الفئوية الضيقة؛ وليس مبالغة إذ أكدنا أن كل التيارات العلمانية والاشتراكية التي ظهرت خلال العقود الماضية في البلدان العربية والإسلامية لم تكن لتظهر ولا لتنتشر لولا وجود مؤسسة دينية يغلب عليها التبعية لحكام متسلطين؛ وفوق ذلك هي مؤسسة تسخر الدين لمصالح هؤلاء الحكام وأيضاً لمصالحها؛ وقد غدا الآن أمراً طبيعياً أن نسمع عن موقف مخزي أو قرار في غير محله لهذا الملك أو ذاك الرئيس ليأتي بعده بعض فقهاء الأزهر أو بعض هيئة علماء الحرمين لتأييده ومباركته وصبغه بصبغة الدين المقدس. إن ما جرى للعالم النووي الباكستاني عبد القدير خان لهو خير عبرة لمعتبر ودليل لمكابر حول حقيقة أن العظماء والنوابغ في بلداننا هم أكثر من يجري عليهم الاضطهاد والعقاب بسبب ما قدموه من أعمال عظيمه لشعوبهم وأمتهم. حتى الآن لا أتصور كيف أن حكومة برويز مشرف المخلوع وضعت هذا العبقري الكبير تحت الإقامة الجبرية استجابة للضغوط والأوامر الخارجية؛ وهاهو بالأمس تُرفع عنه الإقامة الجبرية التي استمرت خمس سنوات كان يمكن له خلالها إفادة باكستان كثيراً وإفادة أمته. مع ذلك لا زالت الرقابة قائمة عليه ولازالت كل تحركاته وتصرفاته مرصودة ومسجلة وكأنه مجرم، والحقيقة أن أمثال هذا النابغة هم من يقلقون الغرب وأعوانه أكثر بكثير من الإرهابيين المزعومين. لقد استطاع الدكتور عبد القدير خان أن يُنشئ مفاعل كاهوتا النووي الباكستاني في ستة أعوام- وهو المفاعل الذي يستغرق عادة عقدين من الزمان في أكثر دول العالم تقدماً، وهذا إنجاز يحق لكل باكستاني وكل مسلم أن يفخر به. لكن تصرف الحكومة الباكستانية كان استمراراً لنهج الحكام المتسلطين ولأن الارتهان الرسمي من قبل حكومات العرب والمسلمين للغرب لم يعد خافياً والسؤال إلى متى تظل هذه الوصاية الغربية التي يفرضونها حتى على تفكيرنا وعقولنا ومبدعينا ومبتكرينا ومخترعينا؟ و إلى متى نظل وتظل حكوماتنا مسلوبة الإرادة كدمى تحركها خيوط من أعلى؟.