تحت شعار "وطن واحد إعلام واحد" أطلقت الأمانة العامة للبث العربي المشترك حملة "الأيادي البيضاء" التي تضم أكثر من 60 قناة فضائية عربية بمشاركة ما يقرب من 40 مؤسسة إعلامية وعدد من وكالات الأنباء الرسمية بهدف تقديم خطاب إعلامي موحد في القضايا العربية الاجتماعية المشتركة مفصل على مقاييس مقررات مجلس وزراء الإعلام العرب، ولا يتجاوز خطوطه الحمراء. ومن جملة القضايا العربية المشتركة، وجدت 63 فضائية ضالتها في برنامج "المرأة النموذج"، وهو من إنتاج الأمانة العامة، واتفقت على بثه في وقت واحد، وهي سابقة ربما تُدخل الإعلام العربي إلى موسوعة "غينس"، ليس بسبب أنها المرة الأولى التي يتم فيها بث متزامن لبرنامج على عشرات القنوات، بل أيضا لأنها من المرات القليلة التي يتحد فيه صوت العرب في عمل مشترك على المستوى الإعلامي، وإن كان العمل في جوهره ذا طابع استعراضي فضفاض. وحتى لا نتهم بمحاسبة النوايا، نشير إلى أن مشروع البث المشترك، مشروع مهم جدا، وجاء في توقيت مناسب ليرسخ فكرة التعاون بين العرب كأمة واحدة ذات قضايا مشتركة وهموم "خالدة"، ومؤكد أيضا أن بادرة الأمانة العامة للبث العربي المشترك، تتضمن رسالة وموقفا، بعدما أصبحت المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها أشبه ب"عروس جميلة" تتهافت على خطب ودّها أطراف مختلفة المشارب والمآرب، ونرجو أن يكون هذا العامل واحدا من الأسباب الوجيهة الدافعة إلى إقامة استراتجية إعلامية قومية تحفظ للأمّة هيبتها وعرضها، وتجعل "مهرها" غاليا لن يقدر عليه إلا من يعطي هذه الأمة العريقة حق قدرها. لقد شهدنا وما زلنا نشهد، كيف تُسيل إمكانيات العالم العربي وفضاءاته المفتوحة لعاب كل ما هب ودب من القوى الإقليمية والدولية، ففي حين وجدت تركيا طريقها إلى العرب عبر "التركية"، هاهي إيران لم يعد يرضى غرورها الاكتفاء بفضائية "العالم" بل أصبحت تخطط لإطلاق قمر صناعي كامل موجّه للعرب لتوضيح وجهة نظرها للمشاهد العربي في مواجهة ما ترى أنه إعلام معاد يريد "شيطنة" صورتها، وبين هذا وذاك تحاول إسرائيل التسلسل إعلاميا إلى المنطقة من خلال سينما هوليوود واستثمارات مردوخ والأفلام المتسللة بالوساطات إلى المهرجانات العربية، وحتى الاتحاد الأوروبي دخل سباق الفضاء إلى العالم العربي بعد أن دعت فرنسا إلى إنشاء قناة "البحر الأبيض المتوسط التلفزيونية" متعدّدة اللغات والثقافات وتتوجّه بالخصوص إلى الدول حوض المتوسط العربية، كما تدخل الصينية عبر "الصينية العربية" على خط المنافسة، لتعزيز توجهها الاقتصادي والتمهيد لغزو المنطقة العربية وتسويق دورها المقبل في العالم. وقد سبقت هذه المبادرات فضائيات أجنبية عديدة أمريكية وألمانية وفرنسية وبريطانية وروسية، وكلها يلعب على شعارات من قبيل "حرية التعبير" وفتح جسور التواصل وتعميق الحوار مع العرب والمسلمين، ولكن بالنتيجة فإن غالبية هذه الفضائيات فشلت فشلا ذريعا في الوصول إلى المشاهد العربي، على الرغم من انعدام وجود منظومة إعلامية عربية موحدة يمكن أن تقف بالمرصاد أمام هذه الهجمات الفضائية، أو تؤسس بالمقابل فضاء هادفا يمكن أن يحتكر إليه هذا المشاهد. ومن هذه المفارقة تبين أن الخلل يكمن في الداخل، كما تبين أيضا أن ما مجموعه أكثر من 600 قناة تسبح في الفضاء العربي وتبث على مدار الساعة، هي من قبيل "ألف كأف"، فبعضها مغرق في العري وبعضها الآخر مغرق في التديّن أو في العودة بالمشاهدين إلى الخرافات وعصر "الفتنة الكبرى"، وفضائيات أخرى لا يتفاهم ضيوفها إلا بالصراخ، وفضائيات اتخذت من الأفلام والمسلسلات "حقنا" تهدّئ بها أعصاب المواطن العربي وتخدره، أما عن الفضائيات الرياضية فحدّث ولا حرج، والبقية فضائيات حكومية باردة كالخشب لا تعرف من الخطاب الإعلامي غير التمجيد والتلميع. وإذا كان هناك من سيرى في عدد القنوات التي ستشارك في عرض برنامج "المرأة النموذج" دليلا على النجاح، فإن التحديات أخطر من أن تعد بالأعداد العشرية، طالما أن المسرح الإعلامي العربي لم يواكب العصر الذي أصبح فيه الإعلام، خاصة المرئي، هو سلاح الأقوياء، وطالما أن محتوى هذا الإعلام مازال متخما بأشكال من التسلية الغثة والرخيصة التي يتعاظم فيها "الإمتاع الحسي" على حساب اكتساب المعرفة وتنمية العقل وبناء الشخصية السوية وحتى في صفحات الرأي أو البرامج الحوارية، فقد بات الهدف هو التسلية أيضاً دون عمق في التناول أو واقعية في العرض، وهو ما يُحرّف الرسالة الإعلامية ويضعها في دائرة الشك والبعد عن تطلعات الناس. ورغم التعهدات الكثيرة التي تصل أحيانا إلى عنان السماء حول فتح المجال للحريات، لم يستقل الإعلام في غالبية الأقطار العربية عن وصاية الحكومات، وحتى عندما ظهر الإعلام الخاص فإنه فضّل القفز في ركاب الدولة، طمعا وتملقا لا حبا؛ وفي الوقت الذي يموج فيه العالم من حولنا بالأحداث الجسام، لا تنقل الفضائيات العربية إلا مباريات كرة القدم أو المسلسلات، أو مسابقات تُخدِّر المشاهد واعدة إياه بملايين الدولارات ليظل لاهثا من قناة إلى أخرى حالما بأن يتحول بين ليلة وضحاها من "تحت خط الفقر" إلى مصاف أصحاب الملايين، وبناء على مبدأ "المصالح غالبة"، فإن الفضائيات لن تتخلى عن برامج الغناء ثم الرقص، ثم الفيديو كليب، فالمسلسلات، فالأفلام.. التي تدر ذهبا وتنشئ أجيالا "باهتة"، والأهم من ذلك هو أن تظل هذه الفضائيات العربية بريئة من تهمة "الإرهاب" والتخلف وعداء الآخر. في واقع كهذا لا يمكن لمئات الفضائيات من هذه السلالة أن تقنع أحدا بأنها تقدم إعلاما حتى وإن استخدمت أرقى أساليب الخطاب وأتقنها إيهاما بالموضوعية، فالخطابة والكلام المنمق كان في الماضي الوسيلة المثلى لاستلاب عقول الناس، أما اليوم فالزمن تغير وأصبح الإعلام بصفة عامة، والفضائيات بصفة خاصة، بصورتها البرّاقة، أشبه بمزمار الساحر الذي "يجرّ" وراءه كل من يسمع نغماته، مع حفظ أن الترفيه والترويح عن الناس هدف نبيل وسام، لكن الترفيه يصبح "سلاح إبادة" حين يقتصر الإعلام على تسويق الأوهام وبث الشعارات الزائفة، ويحوّل الثقافة إلى تسلية غير مجدية أو هادفة. عن: عرب اونلاين