سئلت ابنة السبعة أعوام التلميذة في إحدى مدارس قرى صعيد مصر: «هل تناولت كوباً من اللبن هذا الصباح؟» فردت ببراءة تحسد عليها: «لم يكن الدور عليّ هذا الصباح». وعلى بعد آلاف الكيلو مترات في إحدى مدارس بغداد الابتدائية، كانت إحدى الفتيات تتناول وجبة منتصف النهار التي اصطحبتها معها من بيتها، وهي عبارة عن «باذنجانة». وفي مكان ما في «اليمن السعيد» اضطرت فتاتان صديقتان إلى التوقف عن الذهاب إلى المدرسة لأنهما «بلغتا». أما في فلسطين، فاضطرت هدى إلى تحويل أوراقها من مدرستها الابتدائية حيث صديقاتها ومعلماتها المقربات إلى قلبها لأن رأسها أصيب بطلق ناري إسرائيلي بينما كانت تجلس في الفصل وفقدت بصرها ما اضطرها إلى الالتحاق بمركز لتعليم المكفوفات بعد ما كُتب لها عمر جديد. في الوقت الذي تناقش دول العالم أسباب قلة عدد النساء في مناصب رئاسة الدولة وقيادات الجيوش، ما زالت دول عربية عدة تتحدث عن فجوة نوعية في التعليم. أو بمعنى آخر تعاني دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تدنٍ في نسب التحاق الفتيات بالمدارس، وهو ما دعا «المنتدى العربي الثاني للإعلام وحقوق الطفل» الذي عقد في دبي قبل أيام إلى اختيار «تعليم الفتيات» في العالم العربي ليكون قضيته المحورية. وعلى رغم كل المحاولات المبذولة لإبعاد شبح الضعف والذل عن الفتيات، يؤكد الواقع أن «الإناث العربيات أقل حظاً من الذكور العرب». مسؤولة التعليم في منظمة اليونيسكو (مكتب بيروت) الدكتورة نور الدجاني تقول إن «باستثناء الإمارات وقطر والكويت (والأردن والبحرين في ما يخص الشباب) فإن نسب الأمية أعلى لدى الفتيات والنساء. كما أن نسب الفتيات خارج المدارس تفوق نسب الفتيان في كل من الجزائر ومصر والعراق والمغرب والسعودية وسورية. وكما هو متوقع، فإن نسب الفتيات تنخفض كلما ارتفع مستوى الدراسة في التعليم العالي». وأشار تقرير منظمة «يونيسيف» الذي صدر في أوائل العام الجاري تحت عنوان «المُقْصَونْ والمحجوبون» إلى أن مقابل كل مئة فتى خارج المدرسة الابتدائية، هناك 117 بنتاً تفوتهن فرصة الالتحاق بالتعليم الابتدائي، وعلى رغم أنها سمة عالمية، تبقى أكثر وضوحاً في جنوب آسيا، وافريقيا وجنوب الصحراء، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. «المرأة البطلة» وبعيداً من النظريات والتقارير، فإن نظرة سريعة الى المناهج الدراسية في الغالبية العظمى من الدول العربية تشير إلى غياب شبه تام «للمرأة البطلة» أو «المرأة الأديبة» أو «المرأة العالمية». إذ يسيطر «الرجل البطل» أو «الرجل الأديب» و»الرجل العالم» و»الرجل المبدع» على ما يدرسه أطفال العرب. أضف إلى ذلك الصورة التي تُقدّم فيها الأنثى في كتبنا، فهي «الطاهية المبدعة»، و«ربة البيت المنظمة»... وخير مساعد للرجل. وتشير الدجاني إلى أن وصف الطفلة الأنثى من حيث الأدوار التي تتحدد لها ووظائفها ومكانتها الطبيعية والبيولوجية، والتأكيد على دورها في المنزل وفي إعداد الطعام، وعدم الوضوح في وصف المرأة المكافحة والمبدعة تؤثر تأثيراً سلبياً في النظرة السائدة في مجال تعليم الفتيات في منطقتنا. وفي حال لم تؤثر هذه العوامل سلباً في تعليم الفتيات العربيات، فإن هناك حزمة أخرى من العوامل التي تتكاتف لإقصائهن عن التعليم. المستشار الإقليمي للتعليم في «يونيسيف» الدكتورة ملك زعلوك تلفت إلى ما يعرف ب «المدارس الطاردة للفتيات» وهي المدارس التي تعمل على تشجيع الفتيات على عدم العودة إليها مرة أخرى. فهناك مدارس تعاني تدنياً واضحاً في مستوى جودة التعليم والتحصيل. تقول: «هناك علاقة وثيقة بين الارتقاء بجودة التعليم وجذب الفتيات إلى المدارس الصديقة للفتيات. ومعروف أن جودة التعليم في مدرسة ما تقنع أسر الفتيات أكثر من البنين. كما توجد علاقة موجبة بين عناصر الجودة والتحاق الفتيات واستمرارهن في التعليم». الفقر والوضع الاقتصادي تشير تجارب الواقع إلى أن آلاف الفتيات تسربن من التعليم في صعيد مصر لاضطرارهن إلى المشي يومياً عشرات الكيلو مترات للوصول إلى مدارسهن. كما تسربت آلاف الفتيات في اليمن بسبب عدم وجود معلمات إناث في المدارس التي يذهبن إليها، بل إنه في حال استقدام معلمات من مناطق أخرى خارج القرية ذاتها، فإنهن يقابلن في كثير من الأحيان برفض المجتمع الذي وفدن إليه، ما يضطرهن إلى المغادرة بعد فترات وجيزة. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود دورات مياه في بعض المدارس واضطرار الفتيات والمعلمات إلى السير بضعة كيلو مترات لاستخدام دورة مياه، فإن التعليم يتحول كابوساً. وهناك أسباب تتعلق بالفقر والأوضاع الاقتصادية المتدنية تدفع الأهل إلى وقف تعليم بناتهن أو عدم إرسالهن إلى المدارس أصلاً. ففي مدينة دير الزور في سورية مثلاً، هناك 8 آلاف فتاة اضطررن إلى ترك التعليم قبل إتمام الصف السادس الابتدائي لأسباب اقتصادية إضافة إلى ضغوط اجتماعية. لكن هيام تتعلق بأهداب التعليم، فقد توفي والدها وهي طفلة، وكان أخوها الأكبر مجنداً في الجيش. لذا اعتمدت عليها والدتها في إنجاز الكثير من أعمال البيت والحقل في آن. وعلى رغم أن يومها مقسّم بين العمل صباحاً والذهاب إلى المدرسة -وإن كان ذلك على حسب العمل الملقى عليها، ثم معاودة العمل بعد عودتها- تحاول قدر الإمكان أن تثابر في المدرسة. وبالطبع هناك نماذج صارخة في عالمنا العربي تدفع الفتيات دفعاً إلى خارج منظومة التعليم، لعل أبرزها في العراقوفلسطين حالياً، وذلك نظراً الى الأوضاع الأمنية المتردية والتي تمثل خطراً على حياتهن. على رغم ذلك، هناك جهود صادقة للإبقاء عليهن في صفوف التعليم. ويشار إلى أن المدنيين يشكلون 90 في المئة من إصابات النزاعات المسلحة التي وقعت بين عامي 1990 و2005 و80 في المئة من هذه الإصابات كانت من نصيب الأطفال والنساء. وفي كل من العراق والأراضي الفلسطينيةالمحتلة والسودان وأفغانستان، يزداد اعتبار عودة الطفل إلى المدرسة أولوية حتى في خضم النزاعات. فالمدارس لا توفر لهم الحماية المادية فحسب، باعتبارها فضاءً آمناً (وإن كان هذا العرف خرق)، لكنها تضفي على حياة الاطفال شعوراً بالأمان. ففي الخليل (فلسطين) هناك ما يعرف ب «التعليم العلاجي» الذي يتلقاه نحو 12 ألف طالبة وطالب. فهناك حيث الوضع يتسم بالكثير من العنف، يكون أحياناً بقاء التلاميذ، لا سيما الفتيات، في البيت أفضل لتجنب العنف والتحرش من قوات الجيش الإسرائيلي. لذلك، ابتُكر نظام تعليم يكون بديلاً من المعلم في حال لم يتمكن التلاميذ من الوصول إلى المدرسة. تقول إحدى الأمهات الفلسطينيات: «على رغم كل شيء، يظل التعليم بالنسبة إلى الفتيات الفلسطينيات بوليصة تأمين لهن في مستقبل يتسم بالغموض». ويؤكد الخبراء أن التعليم أساسي ومحوري في أوقات الكوارث، فالتعليم قادر على مساعدة الأطفال في التغلب على الصدمات النفسية، كما انه نوع من الروتين اليومي لهم في ظل فوضى عامة يعيشونها. لكن للأسف، فإن الفتيات هن الأكثر عرضة للخطر في مثل هذه الأزمات التي تشهد اتساعاً في الفجوة بين الجنسين وتهتكًا للأعراف الاجتماعية السائدة. كما تزداد نسب العنف المنزلي الناتج من الضغوط والأزمات، كذلك الاغتصاب الذي يتحول إلى سلاح من أسلحة النزاع. الغذاء سلاحاً سلاح آخر من الأسلحة المستخدمة في أوقات النزاع، وإن كان يستخدم لأغراض دفاعية، هو سلاح الغذاء. المسؤول الإعلامي في برنامج الأغذية العالمي (القاهرة) خالد منصور يقول إن الوجبات المقدمة من خلال «برامج الغذاء مقابل التعليم» مصدر مهم حتى لو اقتصر تقديمها على المدارس الموقتة. فهي تضمن عدم توقف العملية التعليمية، بل إن هذه الوجبات المدرسية يمكنها أن تعيد الإحساس بالذات السوية على رغم صعوبة الوضع. كما أن تقديمها في المدارس يزيد من معدلات حضور الطلاب إلى المدارس الابتدائية. ويضيف منصور أن تقديم الحصص الغذائية المأخوذة إلى المنزل يشجع الفتيات على التعليم، وذلك عندما تكون هناك معتقدات ثقافية وأسباب اقتصادية لا تشجع الآباء على إرسال بناتهم إلى المدرسة (الوجبة المدرسية تتكلف 19سنتاً يومياً). وإذا كان توفير وجبة مدرسية ليس شديد الكلفة فكذلك الحال بالنسبة إلى تقديم تعليم «جيد النوعية» لفتيات العالم العربي، وبالطبع فتيانه. وتكمن نقطة البداية في التعليم الجيد في توفير عدد كاف من المعلمين، وما يكفي من الكتب والمعلمين المدربين لتلبية احتياجات كل الاطفال. لكن الدكتورة رجائي تشير الى احتياج دول العالم العربي الى نحو 450 الف معلم، مع العلم بأن المعلمين يشكلون عنصراً اساسياً في تعزيز نوعية التعليم، واستدامته، وفي امكانهم - في حال تدريبهم - ان يعملوا على تحقيق المساواة بين الجنسين خلال عملية التدريس. ومن وجهة نظر اقتصادية، تقول الدكتورة ملك زعلوك ان الاستثمار في تعليم الفتيات في الدول العربية يقلل من نسب الوفيات لدى الاطفال، واصابتهم بالامراض، ويقلل من وفيات الامهات. كما أنه يدعم تعليم الاجيال المقبلة من الفتيات، ويؤكد فعالية الاستثمار في التعليم. إذ ان اداء الفتيات التحصيلي جيد وبقاءهن في التعليم يكون احياناً افضل من بقاء البنين. دعوة الى تدخل سريع المنتدى الذي شارك في تنظيمه كل من منظمة «يونيسيف» وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسكو ونادي دبي للصحافة والمنظمة العربية لحقوق الانسان، ومركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، كشف العديد من الارقام والاحصاءات التي تحتاج الى «وقفات» طويلة من القيمين على التعليم والاطفال في عالمنا العربي: - هناك 70 مليون أمي في عالمنا العربي، والاناث يشكلن ثلثي الرقم. - جيبوتي والسودان واليمن هي الدول التي تواجه القدر الاكبر من التحديات في مجال التعليم، ونصف الفتيات فيها محرومات من التعليم الابتدائي. - في عام 2001، كانت نسبة الاطفال العرب خارج المدارس 60 في المئة. - الدول التي تحتاج الى جهود خاصة بتعليم الفتيات هي العراق والمغرب وجيبوتي واليمن والسودان، وبدرجة اقل الجزائر ومصر وسورية والسعودية وموريتانيا. - هناك حاجة ماسة في كل من العراق والسودان وفلسطين حيث استمرت النزاعات عقوداً طويلة لاعادة دمج المدارس والتركيز على المناطق التي استقرت فيها الاوضاع (إن وجدت). - في الغالبية العظمى من دول المنطقة تتميز الفتيات بمعدل رسوب اقل من البنين. - تسهيل ممارسة الفتيات للرياضة ضرورة لأن ذلك يتيح لهن ان يصبحن قائدات واثقات في أنفسهن، ويكسبهن مهارات جديدة. - تحتاج مدارس عدة في الدول العربية الى توفير مياه وحمامات نظيفة، ففتيات عربيات كثيرات ينقطعن عن المدارس بسبب عدم توافر دورات مياه ومياه شرب. - ثلثا اميي العالم الذين يبلغون 876 مليون شخص هم من النساء. هكذا، وعلى رغم صدق مقولة المبدع الراحل صلاح جاهين بأن «البنات ألطف الكائنات» لكن واقع الحال يشير الى أن ألطف الكائنات العربية في حاجة الى تدخل سريع. "الحياة"