منذ أحداث سبتمبر 2001 دخل الصراع العربي الإسرائيلي إلى مرحلته الخامسة، وهي مرحلة ابتعاد أمريكا عن حلفائها العرب وتفتيش هؤلاء عنها على اعتبار أن المرحلة التي سبقتها كانت مرحلة الاعتقاد بأن 99 بالمئة من أوراق الحل في أي قضية وفي أي ملف في الشرق الأوسط هي في يد أمريكا، وفقًا لتشخيص محمد حسنين هيكل.. وأضاف أن المرحلة الخامسة ممكن تسميتها مرحلة نفاذ إسرائيل في الدول العربية، حيث إن إسرائيل تقوم بالتوسط للدول العربية عند الولاياتالمتحدة عندما تعجز تلك الدول عن تسويق أي من ملفاتها أو مصالحها عند الإدارة الأمريكية، وهذه الملفات غير متعلقة بإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، بل هي مصالح قطرية وتصب عادة في مصلحة النظام العربي المعني أو في مصلحة بعض شخوصه ومقربيه. وبالطبع لا أحد يعترض على هذا التشخيص لأنه يستند إلى معطيات ومعلومات وحقائق نعتقد أنها دامغة إذا ما صدرت عن مصدر وثيق ومطلّع مثل الصحفي محمد حسنين هيكل، فعندما يقول إن إسرائيل تتوسط للدول العربية تكون جعبته مليئة بالقصص والروايات التي لا غُبار على صحتها. وتقسيم المراحل التي حددها هيكل لا يقف عند التفاصيل والأحداث الصغيرة، بل يمفصل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وفقًا لعلامات وأحداث كبيرة فارقة: 1- مرحلة 1948، قيام دولة إسرائيل في أرض فلسطين في قلب الأمة العربية. 2- مرحلة سنة 1949، واحتلال منطقة أم الرشراش "ايلات" وإقامة مينائها وتقسيم العالم العربي إلى قسمين من خلال الفصل بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. 3- المرحلة الثالثة، وتمتد حتى 1973 وهي مرحلة العجز العربي والتفوق الإسرائيلي المُطلق المدعوم من أمريكا والغرب. 4- مرحلة 1973، وهي اكتشاف العرب أنهم قادرون على مواجهة إسرائيل، وهذه المرحلة امتدت حتى 2001 "أحداث سبتمبر"، فيها ساد الاعتقاد أن أوراق الحل في يد أمريكا، وتوقف الخيار العربي على الركض وراء أمريكا والسعي لتحسين صورتهم عندها وتقديم الطاعة لها، فكانت علاقاتهم مع أوروبا والعالم ثانوية إن لم تكن على الهامش. 5- المرحلة الخامسة، معاقبة أمريكا للعرب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ونفاذ إسرائيل في الدول العربية، وفيها "هجر العرب التاريخ ولاذوا بالجغرافيا". هذا التوصيف صحيح فيما يتعلق بالنظام العربي الرسمي التابع لأمريكا والذي تقوده مصر والسعودية، ولكنه غير منصف فيما يتعلق بسوريا التي على الأقل رفضت التبعية واحتضنت المقاومة، وفتشت عن حلفاء بديلين، فحافظت على علاقة متميزة مع روسيا وثبتت تحالفها الاستراتيجي مع إيران وحسنّت علاقاتها مع تركيا، وتحاول في السنوات الأخيرة خلق توازن منطقي تحافظ من خلاله على هذه العلاقات الاستراتيجية وإخراج نفسها من العزلة السياسية والاقتصادية التي فرضها الغرب بسبب "مشاكسة" النظام السوري له. في معرض الحديث عن الهيمنة الاسرائيلية وارتماء النظان العربي في أقنان أمريكا وإسرائيل اعتقدنا وما زلنا ب"أنّ أهم علامة فارقة على مستوى الشعوب العربية في "المرحلة الخامسة" هي باعتقادنا نشوء نموذج جديد للمقاومة برز في لبنان عام 2000 عندما انسحبت إسرائيل تحت ضرباته، واستمر بالتطور هناك حتى عام 2006، مُلحقًا الهزيمة بالجيش الذي لا يُقهَر، ومن أهم ميزات هذا النموذج أنه ذو أثر كبير على الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، والتأييد الشعبي له ولرموزه غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، إلى درجة أنه بات يتحول إلى ثقافة عامة هي ثقافة المقاومة والممانعة التي في صُلبها مناهضة المشروع الإمبريالي وإسرائيل. وإذا كانت هذه المرحلة هي مرحلة "نفاذ إسرائيل"، فإنها أيضًا مرحلة "اختمار الوعي القومي المقاوم"، وخميرتها كل الشعوب العربية... من غير المنصف تاريخيًا "وليس من باب الرومانسية السياسية"، إغفال ذلك وكأنه على هامش المرحلة والتاريخ، خاصة وأنّ ملامح الوعي القومي المقاوم باتت واضحة في كافة الساحات العربية، حيث أصبح بالإمكان الحديث عن انتشار وتغلغل ثقافة المقاومة في معظم المجتمعات العربية حتى في ظِل أكثر النظم قمعية. هذه حقيقة تميز المرحلة، وهي نتيجة طبيعية لكسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وإلحاق الهزيمة بإسرائيل، ولا شك أنها متأثرة أيضًا إلى حدٍ بعيد بنموذج الجمهورية الإسلامية في إيران. لا يمكننا بالتأكيد الحديث عن هيمنة ثقافة المقاومة والوصول إلى حالة نوعية شاملة، وإنما من غير ريب توفرت حتى اللحظة المقدمات الضرورية لتأسيس هذه الحالة النوعية، والتي أهمها التأييد الشعبي العارم للمقاومة، والذي لا بُدّ وأن يتحول إلى حراك شعبي إذا ما أحسن استثماره من قِبل الحركات والأحزاب المناهضة للظلم وللمشاريع الأمريكية والإمبريالية. لا توجد مقاييس كمية للتعبير عن مدى تغلغل الوعي المقاوِم بين الجماهير، وإنما هناك دلالات معنوية تعبّر عنها النُخب والعامة على حدٍ سواء من خلال الأدبيات والمواقف والآراء وردود الفعل العفوية والمنظَمة والتي تحولت إلى مظاهرات مليونية في بعض العواصم" "أكتوبر 2009". وهاهو عام 2011 منذ بدايته ينقلنا إلى المرحلة السادسة، مرحلة الثورة والانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة المستبدة وأنظمة التوريث والخيانة. بدأت في تونس وهي مستمرة كما يبدو حتى تحقيق أهدافها التي تبلورت مع اشتداد المظاهرات واستمرار محاولات النظام البائد مع القوى الانتهازية، التي دخلت على الخط والمرتبطة مع أطراف خارجية على رأسها أمريكا، للالتفاف عليها. الانفجار في الشارع المصري هذه الأيام ليس بتأثير العدوى التونسية وإنما هو وليد احتقان وحراك سياسي شعبي متواصل منذ سنوات وإن بوتائر مختلفة صعودا وهبوطا. ولا شك أن حركة الاحتجاج الحالية عظيمة الأثر وتبشر بآمال كبيرة حول تخليص مصر من ربقة الحكم المستبد، خاصة وأنها هذه المرة خرجت عن المألوف ولم تعد تبحث عن المخلّص المنتظر من أجل الانطلاق، الأمر الذي أبقى في الماضي مصر والشعب المصري عمومًا في دائرة العجز والضعف المعهودة التي تَسِمُ عادة شعوب العالم الثالث والشعوب العربية على وجه الخصوص. لقد شهد الشارع المصري في العقد الأخير حراكًا سياسيًا هامًا تمثل في ازدياد حجم المعارضة السياسية للنظام وتجسد ذلك في نجاح حركة الإخوان المسلمين بالفوز بثلث مقاعد مجلس النواب على الرغم من عدم نزاهة الانتخابات والتزوير المفضوح من "مافيا" النظام، وتجسّد كذلك بنشوء حركة "كفاية" واتساع دائرة الاحتجاج من قبل الشباب المصري "حركة 6 ابريل"، وغيرها، والأهم من ذلك المجاهرة في الشارع المصري من قبل المواطن البسيط بنقد عملية التوريث والاستبداد وحسني مبارك، الأمر الذي لم يكن رائجًا في سني التسعينات على سبيل المثال إلا من قلة قليلة داخل الغرف المغلقة. المناخ السياسي في مصر يعبر عن حالة الاحتقان الكبير التي وصل إليها الشعب والتي لم تنجح أحزاب المعارضة وتحديدًا حركة الإخوان المسلمين باستثمارها كما يجب وتخلفت وراءها بشكل فاضح في أكثر من موقع ومناسبة ولم تتجرأ على المضي وفقًا لنبض الشارع وخلق حالة شعبية معارضة للحكم عندما توفرت الفرصة لذلك خلال الفورة الشبابية التمردية وإعلان الإضراب الذي استنكفت الحركة عن المشاركة فيه أو حتى الركوب على موجته قبل حوالي سنة. فهذه الحركة "الإخوان" أضحت تتمتع بصفة "التريّث" كصفة ملازمة لاتخاذ أي قرار، وغالبًا ما يؤدي تريثها إلى فقدان اللحظة التاريخية للحدث، وها هي هذه الأيام أمام مرحلة مصيرية لن ترحم الجماهير الشعبية أي متخلف عن الانخراط فيها. يعتقد الكثيرون في مصر أن قيادة الإخوان المسلمين أصبح لديها كثير من "الامتيازات" "الاقتصادية تحديدا من خلال الانخراط عميقا في النظام الاقتصادي القائم" التي تخشى على ضياعها فيما لو خطت خطوات أكثر جرأة باتجاه التغيير والتحريض على النظام "بالطبع إلى جانب أسباب أخرى متعلقة بالقمع وغياب الديمقراطية". كان بالإمكان تفهم هذا التريث من قبل حركة الإخوان لو أنها مُقدمة على طرح برنامج سياسي لمواجهة الحالة السياسية الراهنة وإخراج البلاد والشعب من أزماتهما الخانقة على مستوى الفقر والبؤس والديمقراطية وإعادة مصر إلى قيادة العالم العربي. فمواجهة النظام المصري المتغوّل بالاستبداد وإفقار الناس بحاجة إلى برنامج سياسي واضح وإلى تحالفات سياسية بين جميع أقطاب المعارضة المعنيين بالتغيير على أساس ديمقراطي يحترم التعدد وينبذ الإقصاء السياسي. المطلوب اتخاذ موقف من الخطاب التغييري الذي تطرحه الحركة الشعبية بإسقاط حكم مبارك وبرلمانه والذي يجب أن تتوحد حوله قوى التغيير، فهذه المطالب يجب أن ترفع وتصبح شعارات سياسية لجميع قوى المعارضة؛ فالنظام المصري لن يصبح بين ليلة وضحاها ديمقراطيًا ويقدم على إصلاحات ديمقراطية شاملة ويقدمها على طبق من فضة للمعارضة، لا بل من المرشح أن يزداد استبدادًا وقمعًا وتزويرًا. باعتقادنا أن انتفاضة مصر الحالية حولت هذه المطالب إلى حالة شعبية عارمة، لكنها تواجه بأجهزة متمرسة على تخريب وإحباط مبادرات التغيير، ولا بد من تشكيل جبهة معارضة وطنية عريضة مزوّدة بمشروع سياسي واضح لإجراء التغيير المنشود وتحقيق تداول سلمي للسلطة، تتبرعم بذوره الآن في المدن المصرية المشتعلة غضبا واحتجاجا. التأكيد على مسألة التداول السلمي نابع من كون الانقلابات العسكرية التي حدثت في العالم العربي، ابتداء من منتصف القرن الماضي، لم تفرز نظاما عربيا قادرا على بناء دولة عصرية وديمقراطية ذات وزن إقليمي حاسم في صراع التوازنات المفروض على المنطقة منذ ظهور إسرائيل كثمرة للمشروع الصهيوني الإمبريالي في الشرق الأوسط. وحتى التجربة الناصرية الأكثر إشراقا في التاريخ العربي الحديث، لم يتسن لها التعمير طويلا، ليس فقط بسبب العوامل الخارجية وشراسة الهجمة الإمبريالية الغربية عليها، وإنما أيضا بسبب أخطائها الداخلية التي عمقت الفجوة بين النخب الحاكمة والناس، فلم تنجح بالتحول إلى قيمة وإنجاز جماعي، يستقتل الشعب في حمايته فيما لو تعرض لمؤامرات خارجية أو داخلية. ورأينا كيف أن نظام عبد الناصر "المخلص الفرد" أفرز بعده نظاما معاديا لأفكاره ومبادئه الأصلية ومتحالفا مع أعداء الأمس، مكرسا لحالة من الفساد طغت على المشهد العام في مصر لتزداد قتامة وسوءا حتى اللحظة. ورغم أن هذا النظام في الآونة الأخيرة افتعل كثيرا من الأزمات الخارجية من خلال تأجيج النزعة المحلوية المصرية وحرف الأنظار عن أزمته الداخلية "الأزمة مع حزب الله والأزمة مع الجزائر"، إلا أن التغيير كما يبدو ناجز بعدما تم كسر حاجز الخوف من النظام وخرج الألوف إلى الشوارع. المرحلة السادسة هي مرحلة التغيير وانتصار مشروع المقاومة الشعبية ضد أنظمة الاستبداد والعمالة وهزيمة المشروع الأمريكي: انتصرت في لبنان وانتصرت في تونس وحتما ستنتصر في مصر.. ومن أهم سماتها الديمقراطية والتعدد والإصرار على التداول السلمي رغم دموية الأنظمة. في هذه المرحلة إسرائيل وأمريكا هما المتضرر الرئيسي والمتربص الرئيسي وستكون المعركة القادمة مفتوحة مع الشعوب العربية.