بعد مرور أكثر من عامين على الأزمة المالية العالمية، بدأت تتوالى تصريحات زعماء ومسؤولين سياسيين واقتصاديين من دول عربية مفادها أن تلك الدول قد تجاوزت الآثار السلبية للأزمة وأن انعكاساتها عليها لم تكن بالحجم الذي كانوا يتوقعونه، وما هي إلا أشهر قليلة حتى بدأت الاحتجاجات التي تحولت إلى قلاقل ثم تطورت إلى نوع من الحراك هز أركان بعض الدول التي لم تكن تتوقع تلك التطورات السريعة للأحداث. وعند التأمل في كل ما جرى في الأسابيع القليلة الماضية على أثر التفاعلية الالكترونية والاجتماعية بين أفراد الجيل الرقمي، وذلك التسارع الذي ميز تدفق المعلومات والتنسيق وانبثاق الحراك من جهة، والمتابعة الدقيقة لمواقف الأحزاب والجماعات السياسية والمعارضة المنظمة والوقت الاستراتيجي الذي تختاره للخروج لوسائل الإعلام من خلال استغلال اللحظة التاريخية التي هي فرصة ذهبية لا ينبغي أن تضيع، ليظهر الوجه الانتهازي والخلفية الايديولوجية للتنظيمات والشخصيات السياسية وغيرها، فضلا عن مواقف المؤسسات العسكرية التي تختلف مهامها وأدوارها حسب موقع تلك الدولة الجيو-سياسي ومصالحها العليا ونظامها السياسي من جهة ثانية، وردود الأفعال الدولية من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي ودراسة الخط البياني للتصريحات والبيانات المتتالية التي تأخذ منعرجات صعودا ونزولا، كدول رياضية تتعامل مع إحداثيات الزمن المتسارع وتطور معطيات الحراك ميدانيا، إلى غاية وصولها إلى الذروة، فتصيب الهدف في الوقت المناسب تماما من ناحية ثالثة. يحدث كل ذلك ونحن نحاول من منطلق التخصص متابعة ورصد وتحليل كافة هذه التفاعلات، من خلال ما نشاهد ونقرأ ونتفرج على مسرح الأحداث السياسية بعين التأمل والتحليل، حيث نتلاعب بالمصفوفات والمتغيرات والمعادلات السياسية، التي نمتحن من خلالها مدى واقعية تصوراتنا ونضج رؤانا وصلاحية رصيدنا العلمي ومنهجياتنا وخبرتنا في التعامل مع هذه الظواهر الجديدة. قبل سنتين، عندما حلت الأزمة المالية في الغرب انطلاقا من الولاياتالمتحدة، بدأ الايديولوجيون عندنا من الذين لا يزالون يعانون من العمى المعرفي، يطلقون تصريحات مفادها أن أمريكا تتراجع وأن الاقتصاد الأمريكي ينهار وأن الولاياتالمتحدة مآلها إلى السقوط كقوة، وبعد مرور عامين تحديدا، يعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن الاقتصاد الأمريكي يكاد يتعافى من تلك الأزمة، بينما تحترق العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن أسباب غياب الرؤية وضعف التوقعات وغياب الدراسات المستقبلية وقصور في متابعة المؤشرات وقراءتها قراءة معرفية وتحليلها تحليلا علميا؟ هل لأن الطبقة السياسية خالية تماما من تكنوقراط متخصصين ومرنين ومنفتحين على ما يجري في العالم؟! لقد تابعت باهتمام شديد تطورات الأحداث في تونس، وصيرورتها الزمنية وتفاعلاتها بين أفراد الجيل الرقمي، فالشاب الذي أحرق نفسه كان قد اختار قناة قانونية للدفاع عن حقه عندما توجه إلى مقر الولاية لتقديم الشكوى التي قوبلت بالإهمال والرفض، ثم ناله ما ناله من الشرطية التي تمثل مؤسسة الأمن، الأمر الذي يطرح إشكالية دولة القانون إلى جانب مشكل البطالة التي جعلت شابا جامعيا يضطر إلى العمل بائعا للخضار، إضافة إلى ارتفاع الأسعار كأحد آثار الأزمة المالية التي كانت وقودا إضافيا للحراك بعد أن تفاقمت بسبب الفساد، ومن ثم اجتمعت كل هذه الأسباب والعوامل في إطار التفاعلات الاجتماعية الرقمية فأدت إلى ما أدت إليه من احتجاجات، استلزمت بدورها سقوط رأس النظام. وتتالت التفاعلات إلى غاية مظاهرات الشرطة والتي فسرتها بعض أحزاب المعارضة بأنها المؤشر الحقيقي لسقوط النظام بالكامل، ولكن المتابعة الدقيقة لمطالب الشرطة والتي تمثلت في مطالب مهنية واجتماعية بحتة أكدت الاتجاه العام والحقيقي لذلك الحراك والذي اكتمل مع الهدوء النسبي الذي صحب الإعلان الأخير عن الحكومة المؤقتة والتي ظهرت أقرب إلى حكومة تكنوقراط معنية بتسيير أمور الدولة إلى غاية وضع التصورات الجديدة الخاصة بتغيير الدستور وبإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وعندها بدأت الأمور تهدأ لا سيما بعد إعلان الاتحاد التونسي للشغل موافقته على الحكومة وكذا بعض المنظمات والشخصيات، الأمر الذي يدعو للتساؤل، هل هذه المعارضة الالكترونية التي حركها العقل بعيدا عن الايديولوجيا أو الكاريزما أو الاتباع الأعمى أو الولاء المطلق أو العصبية الفارغة، فجاءت خالية من أي أجندة وممتدة أفقيا بامتداد الشبكات الاجتماعية بعيدا عن نخبة ومعارضة بدت عاجزة حتى عن مجرد التعليق الموضوعي على الأحداث التي تجاوزتها وبات مجال تفكيرها وتركيزها على كيفية انتهاز الفرصة حتى لا تجد نفسها خارج الزمن عند القطاف؛ كل الذي يهم الجيل الرقمي هو تحسين الظروف المعيشية للشعب من غذاء وصحة وتعليم ومناصب شغل، بعيدا عن اي ارتباط بمنظمات أو أحزاب، فقد تبين بأن الجيل الرقمي زاهد في السياسة وفي كل انواع الكاريزما وربما يعود ذلك إلى أن الإعلام الجديد قد أزاح تلك الهالة والهيبة التي كانت تحيط برجال السياسة بعد أن انكشف السياسيون على اثر عمليات التعرية المتتابعة في مختلف القضايا والمواقف، يناسبها غير مجموعة من التكنوقراط الذين يتقاطعون في مواصفاتهم مع شباب المدونات والمواقع الاجتماعية؟ هل يمثل التكنوقراط الحل الحتمي والأساسي لمطالب الشباب الرقمي؟ لقد راهنت السلطة دائما على أحزاب الايديولوجيا سواء كانت قومية أو يسارية أو إسلاموية، على حسب طبيعة النظام الذي اختارته الدولة لنفسها بعد الاستقلال أو الانفكاك من نظام الحماية أو من خلال حكومات الانقاذ، والذي غالبا ما يكون تابعا للمعسكر الذي كانت تنطوي تحته أيام الحرب الباردة كحركة تحرر أو كإحدى دول العالم الثالث الذي يعيش في ظل التبعية. ولكن اليوم وفي عصر العولمة والاقتصاد الرقمي والمجتمعات القائمة على المعرفة انتهت كل هذه التقسيمات من شمال وجنوب ومعسكر شيوعي ورأسمالي، والأغنياء والفقراء والعوالم الثلاثة، ولم يبق غير تقسيم واحد يتمثل في: المسرعون والمبطئون. لقد انقسم العالم إلى عالم سريع وعالم بطيء وفقا لمفهوم جديد للزمن والتسارع ومعدلات السرعة، بما فيها سرعة تدفق المعرفة ورؤوس الأموال والبيانات والمعلومات عبر النظام الاقتصادي السريع الذي يولد الثروة التي تؤدي إلى بناء القوة والتي تستلزم انبثاق مجتمع الرفاهية الذي تبحث عنه اليوم شعوبنا العربية، ولكن ذلك كله لا يقوم إلا من منطلق وجود رأس المال الفكري capital cognitif الذي يمثل نوعا من القيمة المضافة التي لا يملكها غير التكنوقراط. ومن ثم فإنه حتى لو تغيرت الأنظمة الاستبدادية وتراجعت النسب العالية للفساد فإن الإصلاحات لن تمثل أكثر من مسكنات مؤقتة، طالما استمر العجز عن بناء اقتصاد حقيقي قائم على بنية تحية صلبة تخضع لدورة انتاجية كاملة تقوم في اغلب مراحلها على راس المال الفكري، وتواجد التكنوقراط بقوة ضمن الطبقة السياسية لا سيما على مستوى الإدارة التنفيذية للمؤسسات الاقتصادية والتنموية والعلمية أمر طبيعي في الدول الغربية التي تمثل القوى الاقتصادية الكبرى. فالطبقة السياسية في فرنسا تكاد تكون كلها من رجال التكنوقراط خريجي المدارس الكبرى مثل المدرسة الوطنية للإدارة والمدرسة العليا المتعددة التقنيات، والمدرسة العليا للأساتذة....الخ...، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي يتوزع التكنوقراط فيها على مراكز البحوث والتفكير المرتبطة مباشرة بالإدارة الأمريكية وعلى الشركات الاقتصادية الكبرى، فضلا عن أن غالبية الطبقة السياسية من خريجي أكبر الجامعات الأمريكية. كما أن الظواهر الاجتماعية والاقتصادية باتت على مستوى من التعقيد بحيث لا يمكن أن يستوعبها ويسيطر عليها السياسيون وحدهم لا سيما مع تقدم التكنولوجيا وتعقيد النظام الاقتصادي الذي بات خاضعا للممولة "financiarisation" والتحولات والانفجار المعرفي المستمر، تجعل من فئة التكنوقراط الوحيدة المؤهلة للإمساك بملفات الصناعة والزراعة والتنمية...الخ... وفي حالة الأزمات السياسية والاقتصادية مثل التي تعيشها دولنا العربية تصبح تلك الحاجة أشد. ولقد نجحت التجربة الصينية في تحويل أكبر جزب إيديولوجي في العالم، إلى حزب تكنوقراطي يطبق الليبرالية الاقتصادية ويحافظ على عقيدة سياسية مرنة طوعها للأهداف الاستراتيجية للاقتصاد الصيني ولطبيعة النظام الدولي القائم، وهاهي الصين اليوم قوة اقتصادية صاعدة تنافس الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. ولكن الإشكالية التي تطرح نفسها في هذا السياق تتمثل في أن نجاح عمل التكنوقراط يحتاج إلى حد أدنى من الديموقراطية على مستوى النظام السياسي، بحيث تكون هناك مؤسسات ديموقراطية لها آلياتها في المراقبة والشفافية، فالسلطة مفسدة، "بضم الميم" كما يقول مونتيسكيو، ومن ثم يخشى البعض من أن يؤدي تسييس التكنوقراط إلى إفسادهم، كما يرتبط نجاح الحكومات التي تقوم على غالبية من التكنوقراط بالقضاء على أي فرصة لتضارب المصالح، أي الحيلولة دون أن يكون للتكنوقراطي مصالح تجارية أو أن يكون رجل أعمال، عند توليه مناصب سياسية الأمر الذي يوفر مدخلا للفساد. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن حكوماتنا التي باتت أشبه بحكومات تصريف أعمال دائمة، بسسب اعتمادها على اقتصاد ريعي، وعلى المساعدات الخارجية، باتت في أشد الحاجة إلى هؤلاء العلماء المتخصصين، فهم وحدهم قادرون على الإصلاح الجذري الذي تتطلع إليه الشعوب، حيث إن تركيبة تجمع بين سياسيين وطنيين ممن يملكون الرؤية والطموح وتكنوقراط على مستوى عال من الكفاءة والخبرة والنزاهة من شأنها أن تشكل طبقة سياسية تعيش توترا منتجا وتصورات ناضجة تنتهي بفضل مؤهلاتها الإدارية والمهنية المتميزة بمؤهلاتها وخبرتها إلى حكم رشيد يخفف عن الشعوب معاناة ثقيلة لم تعد قادرة على تحملها. وهنا يأتي عمل السياسيين مكملا لعمل التكنوقراط، فالتكنوقراطي مثلا لا يحسب الآثار السياسية لما يصل من خلال ما يقوم به من دراسات غلى ضرورة اعتماد خطة تقشفية، كحل لتجاوز الأزمة الاقتصادية، وهنا يأتي دور السياسي ليتشاور مع التكنوقراط حول كيفية إيجاد توازنات تحقق حلولا وسط لاسيما في دول تقوم فيها النسبة الغالبة للناتج الاجمالي المحلي على مردود السياحة والمساعدات الخارجية. وفي مقابل استخدام تكنوقراط مرنين وديناميكين ومنتجين لابد من القضاء على المؤسسات والأجهزة البيروقراطية المنغلقة قبل أن تنهار من نفسها، بعد أن تعثرت وتعطلت مشاريع التنمية بسببها من بين تلك التي ازدهرت على أيام اقتصاد الموجة الثانية القائم على نماذج الصناعات الثقيلة أو المصانع ذات المداخن كما يسميها الفين توفلر. وفي ظل هذه المعطيات التي تؤكد تزايد اعتماد السلطة بكل أشكالها على المعرفة التي تشهد بدورها تحولات شديدة التسارع بسبب التوالد المستمر، لابد أن تدرك الأنظمة كما الشعوب أن الحراك والقلاقل والأزمات لن تتوقف عند هذا الحد، فكما أن الناس لم يكن بإمكانهم التنبؤ في بداية القرن الثامن عشر مثلا بالتحولات السياسية التي نجمت عن اقتصاد الصناعات الثقيلة، كذلك اليوم يستحيل تقريبا التنبؤ بنتائج الاستخدام السياسي لنظام إعلام الشبكات والإعلام الجديد والذي هو في تطور مستمر، وكذلك الانتشار الواسع للتفاعلية الشبكية، التي باتت تستخدم كأداة سياسية من طرف الملايين ومن غرف الجلوس أو من أماكن عملهم وتجولهم أوحتى في الشارع اثناء سيرهم، وهي تفاعلية غالبا ما تنتهي بتشيكل لوبيهات الكترونية حول مختلف القضايا والمشاكل، الأمر الذي يتطلب وجود تكنوقراط مرنين من الجيل الجديد الذي يملك مهارات الجيل الرقمي، ولكنه أكثر عمقا من الناحية المعرفية والعلمية والتقنية الأمر الذي يخلق نوعا من الانسجام بين هذا الجيل وحكوماته بعيدا عن نظام تفكير تقليدي منغلق وبطيء في استيعاب طبيعة التحولات المتسارعة التي يمر بها العالم.