من السذاجة بمكان اختزال تحولات تشهدها المنطقة العربية في رسم صورة مستقبلية على نطاق ضيق لا يتعد الاقليم، وأن لا تكون ذات صلة بإعادة تركيب لمشهد كوني ككل، يشمل اوروبا وأمريكا وإفريقية وآسيا. يتوازى ذلك التحول الذي بدأ في تونس ومصر وليبيا واليمن والمغرب، ولن يتوقف في سوريا مع رسم عالم جديد ستلعب فيه الدول النامية دوراً أساساً يعيد ترتيب أوراق العالم ضمن اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة. مثلما تتهيأ الصين خلال الخمسة أعوام المقبلة بعد أن بدأت إصلاحاتها الاقتصادية في 1979، لتصبح أول أكبر اقتصاد في العالم تتجاوز أمريكا عقب احتلالها المرتبة الثانية قبل اليابان، تستعد أوروبا لإعادة تشكيل ذاتها، والتخلص من شوائب أفرزها الاتحاد سعياً إلى «الفدرالية» بدلا من «الكونفدرالية»، بينما سيسيطر التقوقع على الولاياتالمتحدة التي بدأت تفقد ذاتها محليا وخارجيا. دون الاستعانة بنظريات عالمية أو أطروحات خبراء، يمكن تشبيه أمريكا بشركة عملاقة تقدمت عالميا بشكل مضطرد بحكم أنظمة وقوانين حملت عنوان الحرية كهدف رئيس، لكنها تجد نفسها الآن بعد أن ضمنت الحقوق ورغد العيش لمواطنيها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها؛ بسبب أن نفقاتها باتت تفوق الايرادات من الضرائب وعوائد الثروات الخام. أما بكين فلم تفقز عن الحائط نحو التحرر، وسنت تشريعات تجدد ذاتها كلما حققت مزيدا من النمو الاقتصادي، وبدأت من الصفر داخليا بمشاريع صغيرة أصبحت الآن مؤسسات عملاقة. تجد واشنطن نفسها كنظام مضطرة إلى الانقلاب على الدولة، بعد أن عجزت عن الإبقاء على مئات الآلاف من جنودها في الخارج؛ بحجة الامن القومي، وهو فعليا كان مسعى لخفض معدلات بطالة، هي الآن في مسار أحادي لتكون أكبر منتج للنفط بدلا من السعودية، ويتبين لاحقا أن الجنرال الامريكي نورمان شوارزكوف الذي قاد عملية عاصفة الصحراء في 1991، لم يكن سوى وزير للعمل مدني على شكل عسكري أو اقتصادي حاول تأمين مزيد من منابع النفط. عربياً؛ يحدث العكس تماما، حيث إن الدولة تنقلب على النظام في صورة استثنائية، ما يثير تساؤلات عدة حول الاسباب والتوقيت، باستثناء أن أهم دواعي ذلك الانقلاب عدم جدوى مجموعة المبادئ والتشريعات والأعراف التي تنتظم بها حياة الأفراد، والمجتمعات، والدولة، ووضعها النظام، بل إن الدولة ساهمت بتفريخ معظم تفاصيلها وتفرعاتها. تبين أن مجموعة الأحكام تلك التي كانت الشعوب تجمع على أنها واجبة الاحترام والتنفيذ، ليست إلا ترسيخا للدكتاتورية والاقصاء والظلم، وإلا كيف يمكن تفسير انقلابات على الحكم وهروب قادة وقتل آخرين من قبل الشعب ذاته؟ غالباً ما كانت الصراعات في العالم والإقليم تفسر على أساس سياسي وعرقي وديني، بينما واقع الحال يشير إلى أهمية الاقتصاد ودوره الرئيس في كثير من التحولات، حتى إنه كان الشرارة الأولى لأي انقلاب وتغيير. في تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي 2012، كان لافتا فيه التركيز على الطبقة الوسطى، يتوقع لها أن تضم مئات الملايين من الناس الجدد، وستكون أهم قطاع اجتماعي واقتصادي في الغالبية العظمى من بلدان العالم، تحديدا في الصين سيتمتع 75 في المئة من سكانها بامتيازات ومعايير تلك الطبقة. التركيز على تلك الطبقة جاء في سياق أنها ستكون عاملا محفزا وضاغطا باتجاهات التغيير والتحول نحو الديمقراطية الحقيقية، وهو ما نشهده حاليا بغض النظر عن الفترات الزمنية وحتى لو امتدت لعشرة أعوام لاحقة. إسقاط المشهد بشكل خاص على الحالة الاردنية يستحق القراءة والتحليل، رغم أننا نسمع شكاوى من تلاشي تلك الطبقة في بلادنا لحساب الاغنياء، وبسبب زيادة الفقر، ووجود دعوات لإعادة اعتبارها من قبل قادة رأي وساسة، من خلال قوانين جديدة -سياسية أو اقتصادية- ذلك غير حقيقي وبعيد عن الواقع، وليس إلا إعادة سن قوانين تحارب تلك الطبقة التي باتت ترهب الدولة، وتضغط على النظام. يمكن الجزم بأن معدلات النمو رغم مستوياتها المتدنية خلال السنوات القليلة الماضية، وبحدود 3 في المئة، كافية لتقليص مساحات الفقر، وإعادة ظهور تلك الطبقة إلى السطح من جديد، وهي بالطبع ستكون متسلحة بمزيد من العلم في ظل التقنيات وأدوات الاتصال الحديثة وأكثر صحة؛ بسبب اكتشافات العلم الحديث. المسار القانوني الذي انتهجه النظام -والذي لا يمكن أن يخرج تعريفه عن أنه مجرد قوانين وأنظمة وتعليمات تنظم عمل الافراد والمجتمعات– كان خاطئا وأصبح قديما؛ ما دفع بالدولة –أفراداً وحكومات- إلى التمرد عليه رغم انها ساهمت بشكل جوهري في ترسيخه، وإعادة تشكيله أكثر من مرة في مسارات خاطئة جديدة. وعودة إلى الطبقة المتوسط، فإن تهميش المحافظات وإفقارها وحرمانها من التنمية سيدفع بمعظم أهلها إلى هجرتها والنزوح إلى العاصمة، في تحول دراماتيكي يدعم تلك الطبقة المتوسطة من قبل من هم ميسوروا الحال، ويزيد من رقعة الفقراء في الأحياء الشعبية، وفي كل الأحوال سيكون هنالك مزيد من الضغوط على النظام في إحداث تغيير جذري في القوانين الناظمة. الالتفاف باتجاهات نحو تعديلات وهمية في قوانين مثل «الدستور» و»الانتخابات» و»تعليمات المواطنة»، لن تكون سوى مضيعة للوقت؛ إذ ستجد الطبقات المتوسطة نفسها أكثر قدرة على التأثير والضغط باتجاهات نظام أكثر عدالة وتمكين. التغيير بشكل عام في الاقليم والاردن تم اختزاله؛ بحرق بائع العربة التونسي أبو العزيزي لنفسه احتجاجا على وضع معيشي، والصحيح أنه لم يكن سوى شرارة إقليمية تواكب اعادة تشكيل العالم، والتناغم مع قوى عظمى جديدة يكفيها من الوقت سنوات قليلة لتحكم، حتى إن السلطة في فلسطين -شعباً وحكومة- تتمرد على النظام، لتصبح دولة تتمثل في شعب وحكومة وأرض. دلائل واضحة على استدراك البعض على التحولات القادمة في دول، سواء تغيرت معالمها أو بقيت كما هي، مثال ذلك إسراع رئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى عمان لحل مسألة العمالة الوافدة، الرجل يعي أهمية تلبية مطالب شعبه حتى لو كان في الخارج. رئيس الوزراء العراقي نور المالكي يحط في عمان أيضا لطلب مد أنبوبي نفط وغاز لتصدير مليون برميل يوميا، يسقط من حساباته القطيعة وكيف كانت عدائية بلاده بعد رحيل صدام حسين الذي قدم المنح النفطية والنقدية، يعرف أن الاكراد يسدون طريقه من جهة وأزمة سوريا تضيق الخناق على بلاده، لذلك لا بد من الخروج من الأزمة. العاهل المغربي أقر جملة من التعديلات الدستورية، شملت توسيعا لصلاحيات الحكومة، وشملت زيادة في فقرات الدستور لتصل إلى 180 فقرة، وعدلت الحد الأدنى لسن الملك حين استلام الحكم، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا لمجلس الوصاية. زين العابدين بن علي فر من أمام الحشد الشعبي، في طائرة خاصة بعد أن تجولت كثيرا حتى قبلت الرياض استضافته، كان متأكدا أنه غير قادر على استدراك الاحداث، وإقرار اصلاحات سريعة؛ كون الثورة كانت أسرع منه. معمر القذافي قتل على أيدي الثوار، وعلي عبد الله صالح تم إقصاؤه بعد نجاته من اغتيال، والأمثلة كثيرة عالميا وإقليميا، والسؤال: إن كانت العقول التقليدية ستنجح في التقليل من شأن تلك التحولات؛ بحجة عدم الاستقرار في كل من هذه الدول؟ تلك العقول تجهل أن ما يحدث طبيعي وضمن الاستحقاقات، ولا تذكر أن دولا دفعت ملايين البشر كضحايا؛ للولوج إلى وضع جديد. أما محلياً، فإن حال الواقع يشي بأننا ما زلنا نغرد خارج السرب! ويبقى نظامنا على حاله في زمن تتسارع فيه الأحداث، ولا نجد غير أصوات تحذر من تعديلات دستورية وقانون انتخاب لاعتبارات ضيقة، وكأنها لا تقرأ الحاضر وتجهل المستقبل! رغم أننا في كل الأحوال سنكون في دائرة التحول العالمي؛ بفعل المعطيات السابقة شئنا أم أبينا.