التحريض هو الوجه الأكثر بروزاً وسخونة في الساحة اليمنية، والتطرف ناتئ مدبب مكشوف في مختلف الميادين، يشحن العواطف، يستفز الحواس، عداوته معلنة, فهو يستخدم جوانب حقيقية ليصرف النظر عن وجه الحقيقة. الزنداني يمنح الشباب في ساحة التغيير براءة اختراع كان قد أخذها هو حينما أفتى بقتل الجنوبيين ولم تسقط فتواه حتى الآن. أما عبد الرحمن العماد، فقد دعا الناس إلى الموت، واعتبر من يموت شهيداً يشفع يوم القيامة لسبعين من أهله وأقربائه ، وسعار الذين سرقوا مجهود الشباب يقول «كلنا مشروع شهيد»، والحقيقة أن اغلب الشباب الذين تداعوا للتغيير لا يرون من الأصولية التي تحيط بهم إلا جوانبها السياسية خاصة مايتصل منها بالعنف والارهاب، وهذا يدل على فهم ضيق محدود وناقص. ولست بحاجة إلى القول إنهم ينظرون لمعالجة القضايا المرتبطة بالسياسة والسلطة بشكل سطحي وأفقي، وإلا ماذا نسمي قبول تلك الأسماء التي ارتبطت بالفساد وأولئك الذين اشتهروا بقطع الطريق وتعطيل القانون من المشايخ، حينما استقبلوا بميدان جامعة صنعاء استقبال الأبطال.. هؤلاء جزء من المشكلة وليس جزءاً من حلها. هكذا هو واقع التغيير اليوم، واقع لايدرك إلا من حيث أنه خيال, وهو من جهة ثانية خيال لايدرك إلا من حيث أنه واقع السلطة قلب هذه الخريطة وحذراً من محاذرالصراع حذراً خاصاً غريباً وواضحاً وهو في الوقت نفسه ساخر وتراجيدي. دم اليمنيين يتدفق وسيتدفق, أما الزندني والعماد وحميد الأحمر فلا يرونه, وإنما يرون السلطة والراية والكرسي. وأما الشباب فلا يلامسون إلا المظهر، وآراؤهم, بل وأحكامهم لا تقترب من التغيير في ذاته بما هو وكما هو، وإنما تقف عند حدود استخدامه في لغة فائضة في شهوة لاقتناء مالا حاجة له في اختراع غايات تفيض هي الأخرى عن الغايات الحقيقية. إذن الشباب اليوم في ظل هذا الواقع يعيشون في فراغ واقعهم, فراغ يمكن أن يفسر إلى حد يقظة الوهم أو التوهم بأنهم يشكلون بأحلامهم ماأضاعته الأحزاب السياسية والقبيلة بأيديهم. صحيح أنهم استيقظوا، وبهذه اليقظة رفعوا سقف الحرية, لكن دخول القبيلة إلى ساحتهم والتحاق عناصر الفساد بهم جعل هذه اليقظة تتحول إلى فراغ، حينما أغلقوا أبواب الحوار ليعودوا إلى الوراء, وكل عودة إلى الوراء تعد ارتكاساً, أو هي شكل من أشكال السقوط نعتقد أنها شكل من الصعود. إنهم ينظرون في الأفق المحيط بهم فيتوهمون أن المساحة التي تجمعهم هي الحقيقة, ويستمعون إلى مكبرات الصوت، فيعتقدون أن الألفاظ التي تصدر عنهم هي كل المعرفة, وتصيرحرية الآخرين وخصوصيتهم, خروجاً وبلطجة من وجهة نظرهم. العمى, وفقاً لمنطق هذا الواقع أصبح شاملاً وكلياً. إننا أمام ثقافة الإقصاء التي لاتسمح بتحقيق توازن الفرص، لكنها تفرغ الواقع من واقعيته وتحوله إلى صورة تتماهى مع ذواتنا فيتحول الفاسد إلى شريف، حينما ينضم إلينا والمفتي بهدر دمنا إلى عالم رباني، حينما يفتي بهدر دم الطرف الآخر، ويتحول شيخ القبيلة الذي أرسى دعائم التخلف وأعاق بناء الدولة المدنية، ونهب ثروات هذا الشعب مثله مثل من ندعو إلى إسقاطهم, يتحول في ساحة التغيير إلى زعيم وطني. لم يعد الواقع مرجعاً أو معياراً, بل أصبح الوهم المرجع والمعيار، ولم يعد الحل يلتمس في من هو حاضر في مجمل شروطه, وإنما يلتمس في الغائب وفي الغياب، خصوصاً في أحزاب قد شاخت ومشايخ قبائل أحلّوا الدماء والمال العام، وانتهكوا القانون واستلموا أموالاً من الخارج، والأخطر من ذلك أن الحل لم يعد موجوداً في الحياة, بل في الموت, ذلك أن الموت هو وحده الذي يوحد بين الصورة وأصلها, ويوحد بين الجمع من خلال فتاوى تدعو إلى الموت وشعارات تقول «كلنا مشروع شهيد». هكذا حلت في ساحات التغيير المتعددة الصورة- الأصل - محل الواقع، متضمنة الحقائق كلها، محملة بكل ماهو غيبي رافضة الامتثال فن الممكن في عالم السياسة. هكذا أصبح الكلام في التغيير لامعنى له من وجهة نظر هؤلاء، مالم يحمل هذه العدمية ويستند إليها. والحق أن دعاة التغيير بمختلف تجلياتهم, وباستثناءات قليلة لايقيمون علاقاتهم مع الواقع بقدر مايقيمونها مع هذه الأوهام، وفقدان الواقع الذي تحجبه الصورة وليس الأصل، هو بمعنى ما, فقداناً للذات. حقاً إن مشكلتنا الأساسية هي في المقام الأول فكرية ثقافية، وكل تغيير لايواجه الواقع بفن الممكن من منطلق فكري وثقافي لايعول عليه, ولن يكون إلا جزءاً من المعضلة, كما كان في 62م, وثمانية وستين وأربعة وسبعين وتسعين وأربعة وتسعين وماتخللهما من تواريخ فرعية. فماجرى بالأمس تجاه المعتصمين يدل دلالة واضحة على أن شهوة أمراء الحرب قد تحركت لتقتل المعتصمين بدم بارد.