ليس لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، ولا للرئيس جورج بوش، أو رفاقه «المحافظين الجدد»، أي فضل في اختراع فكرة «الشرق الأوسط الجديد أو الكبير والموسع»، فهذه ليست سوى مجموعة تصورات وأفكار أطلقها بعض الاستراتيجيين الاميركيين في فترات تاريخية معينة، خاصة منذ ستينات القرن الماضي، وذلك كاستجابة لأزمات خطيرة تعرضت لها إسرائيل أحياناً، وسوق النفط ومصالح أميركا في أحيان أخرى، فهذا الجديد الكبير والموسع، هو اختراع أميركي عام. يقوم التصور الأميركي للشرق الأوسط المراد، حسب الهندسة التي أوردها الضابط الأميركي السابق رالف بيترز، في مجلة القوات الأميركية (عدد تموز يوليو)، على إعادة رسم المنطقة، أو تجزئتها أكثر، بحيث تتطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة. ولاشك في أن الهدف من هذا التركيب هو إعادة صوغ المنظومة الثقافية، والواقع الاقتصادي للمنطقة، بحيث يحقق أكبر قدر من الربحية، حسب المفهوم الاقتصادي للأميركيين، ويغير من حالة العداء الكبيرة التي بدأت تؤثر على الأمن القومي الأميركي. ولاشك أن هذه الاستراتيجية الأميركية بشكلها المطروح، ستؤدي حكماً إلى خلق كيانات سياسية ضعيفة، وخاصة في قلب مناطق مصالحها الحيوية، أي دول الخليج والعراق، مما يسهل، حسب التصور الأميركي، إخضاعها وابتزازها، بحيث يصبح الحصول على مواردها النفطية تحديداً بأكلاف أقل، ناهيك عن السيطرة الاقتصادية والعسكرية على هذه المناطق، في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط، وازدياد الحاجة إليه من قبل القوى الدولية المتنافسة، وعدم وجود بدائل رخيصة لهذه الطاقة في المدى المنظور. إلى أي مدى تتطابق حسابات البيدر الأميركي مع حقول المنطقة المتأججة والملتهبة؟ تلك قضية يبدو أنها أسقطت من حسابات المعلم الأميركي، المتعجل دائماً على مواسم القطاف، والتي تتحول دائماً، نتيجة هذا التسرع، إلى مواسم نار ودخان ودماء، والسبب في ذلك أن أميركا المتطورة في تكنولوجيا الدمار والخراب، ما زالت تقف عند المربع الأول في التفكير الاستراتيجي، وما زالت تجتر أفكار شيوخ استراتيجيتها القدامى، من هنري كيسينجر إلى زبيغنيو بريجنسكي، وتطعيمها بفلسفات تأملية، كتلك التي أنتجها كل من فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتينغتون، في حين أننا لو تفحصنا هذه الفلسفات لوجدناها مبنية على ردود فعل على بعض حركات الرفض «المتطرفة» ضد الهيمنة الأميركية، أكثر منها مقاربات لواقع دولي معين. كما لا تخلو تلك الفلسفات، التي بنيت عليها هذه الاستراتيجيات، ولا تنظيرات أولئك الشيوخ الاستراتيجيين، من التأثر بحالة الانتصار التاريخي الذي تم تحقيقه على منافس اميركا التقليدي منذ تبلور قوتها الاستراتيجية، أي الاتحاد السوفياتي، ومن ثم ترحيل المنطق الإستراتيجي نفسه، ومحاولة تطبيقه على حالات أخرى، مع مراعاة لمسألة اختلاف القوى بين الحالتين، وبالتالي إضافة عمليات رتوش معينة، كالعمل الوقائي، وتغيير الأنظمة، والهيمنة الأميركية على العالم. لاشك أن هذه الاستراتيجية بكل عيوبها ومضامينها غير المنطقية هي كافية لإحداث التأثير الأميركي على الواقع الجيو سياسي الشرق أوسطي، وإحداث تغييرات خطيرة في خريطة المنطقة التي قامت منذ أكثر من خمسين عاماً على نمط سياسي واجتماعي معين، كانت له مزايا وسيئات معينة، استفادت منها منظومة الهيمنة الأميركية، كما تضررت، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى يمكن أن يكون التغيير الأميركي المراد إحداثه مفيداً أو حيوياً لمصالح أميركا في المنطقة، وبأي قدر يخدم استراتيجيتها الكونية؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من التأكيد على مجموعة من الحقائق فيما خص النفوذ الأميركي في المنطقة تاريخياً: 1- استطاعت أميركا إحداث أكبر تأثير في المنطقة عندما توافقت سياساتها مع سياسات كثير من دول المنطقة، خاصة لجهة محاربة الخطر الشيوعي الذي مثله الاتحاد السوفياتي. 2- كذلك مراعاتها لمصالح دول المنطقة، وخاصة في المجالات التنموية والاقتصادية، وتحديداً لجهة استخراج وتسويق النفط، والحفاظ على أسعاره ضمن الحد المقبول. 3- عبر اعتمادها في تحالفاتها على قوى إقليمية نافذة وفاعلة، ومؤثرة عسكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً، ومراعاة مكانة هذه القوى، واحترام أدوارها الإقليمية. وعبر هذه السياسات التي اعتبرت إيجابية بالنسبة الى عدد لا بأس به من دول المنطقة، استطاعت واشنطن مراكمة مد نفوذها في الجغرافيا الشرق أوسطية، والتي كانت وحداتها السياسية والقوى الفاعلة فيها بالتحديد، مشغولة في قضايا التنمية والاستقرار. هل يفيد التحول الأميركي في إعادة صوغ المنطقة، في عملية إعادة إنتاج جديدة للنفوذ الأميركي، بصورة تكون أكثر فاعلية وأقل أكلافاً؟ من الواضح أن الاستراتيجية الأميركية تقوم على ثابتين أساسيين يتوقع من خلالهما استراتيجيو أميركا تحقيق هدفهم المنشود: 1- إن في الصغر ربحا استراتيجيا كبيرا، انطلاقاً من الاعتقاد بأن تصغير الكيانات السياسية من شأنه أن يخلق واقعاً سياسياً جديداً، يقلل من حجم القدرات التساومية لمجتمعات هذه الكيانات، وبالتالي يلغي أي احتمال لإمكانية حصول تنازلات استراتيجية مهمة من قبل اميركا. 2- إن إعادة ترسيم المنطقة، لتتوافق حدودها الجغرافية مع حدودها الإثنية، يعني إرجاع المنطقة إلى مربع الصراع «الافتراضي» الأول، أي إعادة إنتاج الحروب الطائفية والإثنية التي عانت منها الوحدات السياسية للمنطقة، وهي في طريقها لصناعة وحدتها السياسية، وإبقائها تالياً بحاجة دائمة لطرف خارجي يدير أزماتها ويضبط صراعاتها، وهذا الطرف لن يكون سوى واشنطن! لاشك أن هذا المنطق يقوم على تصور افتراضي ونظري بحت، يحسب العوائد بطريقة تفاؤلية، فيحيد التكاليف بل يلغيها من الحساب النهائي، كما يتجاهل بشكل تام المعطيات السياسية والاجتماعية للمنطقة، وأهمها أن الاستقرار السياسي والسلم الأهلي للمنطقة وكياناتها يساهمان بشكل طبيعي في تعزيز حالة السلم والأمن العالميين، كما أن التدخل السافر في قضايا المنطقة وشؤونها الداخلية، بشكل فظ، ومحاولة اللعب بتوازناتها، وإن كانا يشكلان أذى كبيراً لمجتمعاتها، إلا أن هذا الأذى لن تكون أميركا نفسها بعيدة عنه. إذ لا يحتاج الإضرار بأميركا ومصالحها في المنطقة إلى وحدات سياسية كبرى، ولا يقتصر على محاولة هذه الوحدات المحافظة على حقوقها الوطنية في ثرواتها ومجالاتها الطبيعية. على العكس من ذلك تماماً، فإن التنظيمات الصغيرة قادرة بشكل أكبر على الحاق الأضرار بأمن ومصالح أميركا في المنطقة، وفي قلب أميركا ذاتها، ف «القاعدة» مثلاً خرجت من حال «الانهيار الدولتي» لأفغانستان، وبقية التنظيمات المعادية لأميركا في المنطقة، نشأت في مجتمعات ميزتها الأساسية ضعف مؤسسة الدولة فيها، وعليه فاذا كان لا بد من شرق أوسط جديد، وفق التصور الأميركي، فإن على استراتيجيي أميركا أن يضيفوا ملحقاً تصورياً جديداً، ولكنه واقعي أيضاً، خلاصته أنه سيكون هناك وضع أميركي جديد لمصالح وأمن أميركا، وسيكون بكل تأكيد، كحال هذا الشرق، قلقاً وفوضوياً وبلا أفق واضح. .............................................. كاتب سوري - الحياة