ما الذي يحدث في عالمنا العربي اليوم ؟, احتجاجات واعتصامات, ثورات شعبية, سقوط أنظمة, فتن طائفية, انفلات امني, تقسيم السودان, مشاكل واضطرابات متتالية ... الخ. كل هذه الأحداث والتداعيات الناتجة عنها لاشك أنها تأتي ضمن عملية تغيير واسعة وربما مخططة للمنطقة بأكملها. ولاشك أن التغيير والتغيُّر، هما قاعدتان لا يُمكن التنصل منهما، أو تجاوزهما، لأن أصل الأشياء الحركة، وليس الجُمود، ولا يُمكننا أن نستحمّ في النهر مرّتين، والواقع كالنهر الجاري ففي كل مرة تستحم فيه، تكون في نهر جديد، أي ماء جديد غير الذي استحممت به سابقاً، وكذلك الواقع، فهو يتجدّد في كل يوم وفي كل لحظة، ومن هذا المنطلق، لا يُمكن لأي عاقل إلا أن يؤمن بحتمية التغيير، لكن ما نراه اليوم من أحداث وتداعيات في العديد من البلدان العربية، لا يُمكن أن نجزم جميعاً بأنه تغيير طبيعي، يندرج في إطار السُّنن التي تتحكم في حركية الشعوب، بل اعتقد من وجهة نظري أن الكثير من مظاهره وأحداثه يندرج في إطار التغيير المُوّجه، من أطراف وقوى دولية وإقليمية تستهدف من ورائه إعادة خلط التركيبة الدينية والنفسية والسياسية وغيرها للشعوب العربية ، بما يخدم مصالح هذه القوى والأطراف بالدرجة الأولى, ولا استبعد مطلقاً أن لا يكون للغرب المتمثل في أمريكا وحلفائها الأوروبيين وإسرائيل بالذات يد فيما يحدث من تغيير وأحداث وفتن في العديد من دول المنطقة, لتحقيق أهدافها المعلنة منذ التدخل الغربي في العراق والمتمثلة في إيجاد شرق أوسط جديد تنعم فيه إسرائيل بالأمن والاستقرار وتضمن من خلاله أمريكا وحلفاؤها مصالحها في بلادنا العربية ونهب خيراتنا النفطية بأقل تكلفة. والحقيقة أن فكرة الشرق الأوسط الجديد قد طرحت بعد حرب الخليج الأولى وكان أحد أهم منظريها ومتبنيها وزير خارجية الكيان الصهيوني آنذاك (شمعون بيريس)، الذي أصدر خلال عام 1993م كتابه المعنون: «الشرق الأوسط الجديد » وقدّم من خلاله أطروحته (العظيمة) «الشرق الأوسط الجديد»!! واصفاً إياها : «بالأسلوب الجديد في التفكير للوصول للأمن والاستقرار، الذي يتطلب منا جميعاً نظاماً أمنياً وترتيبات إقليمية مشتركة واسعة النطاق، وتحالفات سياسية لدول المنطقة كلها». وخلاصة ما نظّر له (بيريس) : شرق أوسط جديد تقوده تل أبيب، شرق أوسط مدجج بالتنمية والرفاهية هذا في الظاهر أما في الباطن فهو شرق أوسط مفكك على أسس عرقية وطائفية ومذهبية يشتبك الجميع فيه مع بعضهم بينما يتصالحون جميعاً وربما يتحالفون أيضاً مع الدولة العبرية، استراتيجية يهودية جديدة لضرورة استمرارية الهيمنة على المنطقة، وإن اختلفت الوسيلة وتغيرت من دبابة وقذائف إلى بضاعة متقنة الإنتاج. ولكي يتحقق لليهود « الشرق الأوسط الجديد» لا بد من إحداث تغيرات ضرورية في المنطقة، تحقق الأمن للكيان الصهيوني، وتعيد رسم خريطة المنطقة وهو ما يطلق عليه تجزئة التجزئة، لما يحقق الأهداف بأسرع الطرق، وذلك من خلال العمل على تقسيم المنطقة على أساس طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب، على أن يستمر بينها قدر من الصراع المعقول الذي يمكن التحكم فيه من قبل القوى المهيمنة في المنطقة، ومع ذلك لا تقبل الفوضى الشاملة؛ إذ لابد أن يستمر البيع والشراء والإنتاج والاستهلاك وسلب الموارد. وإذا كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (كونداليزا رايس) قد بشرت بولادة «شرق أوسط جديد»، سينمو ليحقق «حلاً سحرياً » لعلاج أزمات المنطقة المزمنة !! ووضحت عبارتها بالآتي «حان الوقت لوجود شرق أوسط جديد.. حان وقت القول لمن لا يريدون شرق أوسط جديد إن الغلبة لنا», فلا شك أن الواقع الذي نعيشه اليوم في مختلف أرجاء وطننا العربي قد يشكل الفرصة المناسبة لهؤلاء لإعادة تشكيل وصياغة الجغرافيا السياسية في المنطقة, لتجزئتها واستكمال تبعيتها، أوضاع سيُعاد ترتيبها، تحالفات سيعاد إحياؤها، وأخرى سيتم إقصاؤها، ورؤساء سيتم عزلهم ومحاكمتهم...الخ . وفي هذا السياق نشر (رالف بيترز) وهو ضابط أمريكي سابق مقالة له بعنوان: «حدود الدم» في مجلة القوات المسلحة الأمريكية (عدد يوليو / تموز 2006 م ) وهي جزء من كتابه الجديد: «لا تترك القتال أبداً »، أشار فيها إلى أن الصراعات الشرق أوسطية والتوتر الدائم في المنطقة نتيجة «منطقية» لخلل كبير في الحدود الاعتباطية الحالية التي وضعها حسب تعبيره « الأوروبيون الانتهازيون». ولذلك ومن أجل شرق أوسط أمريكي جديد, قدم بيترز خارطة أمريكية جديدة تلغي الحدود القائمة وتقسم الدول الحالية فتتحول الدولة الواحدة إلى دويلات وتنشأ دول جديدة وتكبر دول صغيرة وتصغر دول كبيرة. واختتم مقالته بالقول «إن لم يحدث تصويب للحدود في الشرق الأوسط الكبير بشكل تتفق فيه هذه الحدود مع الروابط الطبيعية للدم والدين فسوف يكون هناك مزيد من سفك الدماء في المنطقة» وكأنه يهدد بحدود دموية إن لم تنجح حدود الدم الأمريكية. هذا ما كتبه (رالف بيترز) في مقاله (حدود الدم) قبل عدة سنوات، وإذا كنا على يقين بأن كل ما يقوله وينشره هؤلاء ليس بالضرورة أن يكون هو المخطط الإستراتيجي الأساس للمنطقة، فما وراء الكواليس هو الذي ينفذ، وما ينشر هو ضمن حرب نفسية يراد بها تدمير ما تبقى لنا من تفكير. فإننا مع ذلك رأينا بعد أربع سنوات من نشر خريطة الدم كيف قُسمت السودان، وعطلت الحلول لإقامة ما أسموه دولة فلسطينية، ونرى اليوم ما يجري من ثورات وسقوط أنظمة وأحداث وفتن واضطرابات في العديد من دول المنطقة, ولهذا لا نستبعد أن تكون لهم يد في إشعالها للاستفادة منها في تحقيق أهدافهم ومصالحهم في المنطقة, وبداية العد التنازلي لتطبيق خريطة الدم (الشرق الأوسط الجديد) ؟! (*)أستاذ التسويق المساعد جامعة تعز [email protected]