في وسط الظلام المخيم على الأرجاء.. وسط الأنوار الهافته، وفي أزقة الشوارع الموحشة، في ذلك البرد الذي يدخل إليك دون أن تعرف من أين أتى حين تسمع أصوات أناس كانوا هنا وهناك، حين ترى بقايا ما يترك على هذه الأرصفة وعلى هذه الأركان، حين تشعر بالهدوء الملتف حولك، تأخذك الذاكرة بعيدا وتدخل في ذاكرة الآباء والأجداد وتتخيل حيث كانوا يمارسون حياتهم وأساليب معيشتهم وأحزانهم وأفراحهم وعبادتهم وأعمالهم وكافة أنشطتهم الحياتية التي ستضل هذه الإطلال تحدثنا عنها طويلا. بيوت ضعيفة من الطين فيها نوافذ هشة من الخشب القديم، يلتف حولها أسوار بسيطة من اللبن المتراكم على بعضه. وفي كل بيت تدفن كنوز من الذكريات القديمة ومن المواقف الحزينة والسعيدة، من المشقات والآلام والرضاء بالقليل إذا وجدت البسمة، كان القليل سيد الموقف في كل بيت وكان القليل هو المعين على استتباب روح المودة والمحبة والتعاضد بين أفراد هذه المدينة السعيدة حين نرى آثار لألعاب أطفال صنعوها لأنفسهم من أشياء بسيطة كان الكبار يوجهونهم في صناعتها تكريسا لمجموعه من المعاني والأحاسيس والآداب التي تخلق في الطفل حب الوطن وأصالة الماضي وروح الإبداع وسلامة التفكير لتتفتح أمامه الحياة مبتسمة، هذه الألعاب لها قيمة عند كل واحد منهم، لها ماضي جميل تعلموا من خلاله كيف يعيش الإنسان بالصبر والتحمل ويخلق حوله الأمن والأمان. وحين نزور كل من هذه البيوت نجد أساسها الصدق والحب والتعاون، حين نفتش في أركانها سنجد حضارات قديمة، نجد أساليب حياة مختلفة نجد عادات وتقاليد وحكم أصيلة لا يمحها الزمن حين أرى مباخر كانت تفوح منها بخور المسك والعود تستحضر بها روح الملائكة وطهارتهم، و نرى مطابخ مليئة بالرماد الأسود الملبد على الحيطان يدل ذلك على إكرام الضيف في كل الأوقات وبشاشة الوجوه التي تصنع بأياديها عدد كبير من أصناف المأكولات التي تزرع وتطحن موادها الغذائية يدويا بأدوات بدائية كانت تسمى (المرها والرحا ومواقد الحطب والتناوير). حين نرى رجال اقويا يخدمون بكل حب ولا يتساءلون عن حصانتهم أوحين نرى رفوف عجائز بداخلها بهجة أطفال حين يرون ألوان من الحلوى البسيطة واللذيذة، حين نرى أشياء مرفوعة عالية نضنها أشياء ثمينة ولكن حين نصعد لنراها نجدها الكرامة والعزة نجدها المجد والشهامة، أو حين ننظر إلى أعين النسوة نجدها حالمة بريئة، وحين نفتش في خزائنها الصغيرة نجد قطع مهدمه وحين نفتحها نجد بداخلها العفة والحياء والنزاهة نرى صناديق مرمية غطاها التراب بمحتواها العريق ليست أحقاد ولا كراهية. حين نتجول في شوارعها نحس بالدفء المكنون في القلوب، وحين نزور قبورها لنبحث عن العلم الذي هو شعارها نجده في وجهاؤها التي اختفت أجسامهم ولكن نورهم باقي يملا كل إرجاء هذه المدينة " مدينتي " . تعجز الأيدي وتجف الأقلام وتملئ الصحف وما أزال اكتب عنك كل ما أحسه في كل خطوة في كل نظرة و في كل حكاية أنت مصدر إلهامي في كل حكاية روتها مخابئها أخبرتنا بها أمهاتنا فتشنا عنها في حاضرها عن ماضيها. ماذا أقول لك ..؟ هل أقول إن بيوتك ستزيلها القوة ؟ أن نوافذها دمرتها الجشاعة، أو هل أقول أن أسوارها ستحطمها الإرادة الظالمة أو أقول أن كنوزك أخذوها الأغنياء ولعبوا بها العاجزين أهملتها الراحة والتسرع ، أو هل سوف أقول أن تلك البسمة النابعة من القلب صارت صوره لانتهاك الحقوق الإنسانية للاستيلاء على الأبرياء أو هل أقول أن التباهي والتفاخر دمر أمال الأطفال ومدارسهم وتحولت إلى بقايا أوراق تلعب بها الرياح . سأقول يوما أن مباني ترفيه عالية شيدت على أنقاض حضارات قديمة سادت ثم بادت فدمرت حقوق وانتهكت العادات والتقاليد ومسحت القيم، وحلت العولمة مكان الخصوصية . أأقول أن صناديق ملآها التراب مسحت وفتحت ليخرج الحقد والكراهية لتأتي الرياح وتبعثر بها في كل ألاماكن، هل أقول أن الكرامة والعزة والمجد والشهامة كل يوم تداس تحت أقدام الأثرياء ماذا سوف أقول ؟ أأقول أن مباخرها تركت في الرفوف، ومطابخها اكتنفها البخل وغادرتها إيقاعات الكفوف. سوف أقول أن النساء لا يعرفن سوى التحدث في كل ما هو غريب ويثير الدهشة، صارت أعينهن حمراء مليئة بالتحسس والمبالغة غير النافعة، لن أقول سوى أننا في زمن انعدمت فيه العفة والحياء والنزاهة واستبدلت بالتباهي والتفاخر بالسلاسل والحلي الملونة التي تقف أمام أعين الرجال. صارت خطوات لها أصوات، ألوان زاهية لها روائح، صارت ألبسة غير موجودة، سوف أقول أن رجال أضحوا كصور لأجسام ساكنة، فصارت الحياة باردة، لا تعرف أين الدفء وأين سوف نجده.. هل في النفوس، أو في الرفوف، أو في البيوت . سنجده في القبور التي هي الوحيدة الباقية تذكر الآجال.