في أجواء من التردُّد والغموض لمستقبل جولات المحادثات بدأت في الرياض الأحد السابع عشر من إبريل اجتماعات تعقدها المبادرة الخليجيَّة لليمن عبر وزراء خارجيَّة دول مجلس التعاون ومسئولي الأمانة مع ممثلي الرئيس وممثلي المعارضة بلقاءات منفصلة، أي دون لقاءات مباشرة بين الرئاسة وبين اللقاء المشترك وشركائه الذين انضمّوا إليه، وهو ما يعطي مؤشِّرًا بالغ الوضوح لحجم انعدام الثقة بين كل أطراف المعادلة اليمنيَّة من جهة وبين الرئيس علي عبد الله صالح ونخبته الخاصة. سجل الرئيس الحواري وقبل أن تُصدر المعارضة اليمنيَّة بيانها لطلب توضيحات من مجلس التعاون بشأن المبادرة الخليجية لإنقاذ اليمن كان الرئيس علي عبد الله صالح قد بادر برفضها وسمّاها ابتداءً بالتدخل القطري ثم عاد وصرَّح مصدر آخر أنّ الرئاسة ستنظر في المبادرة الخليجيَّة مع أن المبادرة واحدة لم تتغيرْ ولم تكن هناك مبادرة قطريَّة إنما المبادرة خليجيَّة وإن كانت كتنسيق سعودي قطري أكبر. هذا الموقف يقودنا مجددًا لعمليَّة مراجعة شاملة لموقف الرئيس اليمني في دورات عدة من الأزمات السياسيَّة كان فيها عنصر التأزُّم قد بدأ من نقضه لاتفاقات عديدة بشأن الحوار القديم مع المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية وكان الحوار يُحبَط بالالتفاف عليه من قبل جماعة الأخ الرئيس في حزب المؤتمر, وتعود الأمور إلى المصادمة. ومع دورات عديدة من هيمنة الفساد عبر النخبة الحاكمة وتأزّم المشهد السياسي احتقنت مشاعر الشباب المحبط في الشقيقة اللصيقة المهمة عربيًّا وخليجيًّا وانتهت إلى ثورة مطلبيَّة بدأت بالدعوة لإعلان حل المجلسين وحكومة محايدة لانتخابات نزيهة, ثمّ وبعد دورات من أعمال القمع والاعتداء المسلَّح وقع فيها العشرات من الضحايا الشباب استدعى الموقف إجماعًا من شرائح عديدة ومهمة بأن المخرج هو تنحي الرئيس, وهو العنصر الموثّّق في المبادرة الخليجيَّة الذي يجب أن يتحقق تنفيذيًّا بحسب المصلحة اليمنيَّة الوطنيَّة العليا. يُشعل النار ويصرخ لقد تسبَّب الرئيس في وضع اليمن عبر سلسلة من السياسات إلى القذف به إلى فوهة البركان, ويرى المراقبون أن عودة القوى الحوثيَّة للهيمنة على صعدة وشبه سقوط الجوف في يد القاعدة كان عبر قرار مباشر من الرئيس من خلال سحبه القوات اليمنيَّة من مناطق التوازن للزجّ بها في أتون حرب قبليَّة عسكريَّة, ولولا الموقف الحكيم لقيادات القبائل في اليمن الذي نتمنى أن يصمد في حماية السلم العام ومنع أعمال العنف ضدّ المتظاهرين لاشتعلت الحرب, فضلا عن مسئوليته في الأزمة الكبرى القديمة التي تسببت بها سياسات الرئيس ونخبته في التصعيد ضد الحراك الجنوبي, بدل احتوائهم سياسيًّا وردّ الاعتبار للجنوبيين وتسهيل مهمَّة الفيدرالية ضمن اليمن الموحَّد والمستقلّ. لقد كان الرئيس بعد كل أزمة واضطراب أمني يصيح بالمجتمع الدولي والعربي من خطورة هذه الانهيارات رغم معرفة الجميع بمسئوليته المباشرة, ولا بد هنا أن نستذكر تضييع صنعاء لفرصة الوضع المهيَّأ الذي صُنع أمام الرئيس بعد انتهاء حرب دخان وترجيح الاستقرار الأمني ومناشدة كل الأطراف وخاصة الدعم من الرياض ببدء صفحة جديدة من المعالجات السياسيَّة التي تسمح للشعب باختيار قيادته السياسية في نظام جمهوري قضى فيه الرئيس عمر ثلاثة أئمة في حكم اليمن ولا يزال يصِرّ على البقاء. التذبذب والحسم المطلوب وحين جاءت المبادرة الخليجيَّة أبدى الرئيس مواقف لا تُشجع أبدًا على ثباته لتسليم الحكم حتى لو دخل في مفاوضات, ولم يشهد التاريخ اليمني الحديث مثل هذا الحراك في انضمام قطاعاتٍ عديدة إلى المعارضة الشعبيَّة الشبابيَّة من الجيش ووزراء ومسئولين وزعامات قبيلة ومن الحزب الحاكم ودعوتهم جميعًا أن يتنحى الرئيس وأن بقاءه مع النخبة المتنفِّذة هو قلب الكارثة في اليمن, ومع أن الرئيس ليس بِدعًا في مجيئه وذهابه فقد مرَّ على اليمن زعماء ذهب عهدهم وفريقهم... إلا أن الرئيس أو فريقه ثابتون في مواقفهم كأنه لا يجوز أن يُستبدل هذا العهد بقرار من الشعب اليمني!! إن مخاوف المعارضة وقيادة شباب الميدان مخاوف مشروعة يجب أن تؤخذ بالحسبان، من حيث عدم ثقتهم بتنحي الرئيس وفريقه, وأن شخصية تُعرّض اليمن إلى هذا المستوى من المخاطر والتقسيم لا يمكن أن يُعتمَد على وعودها, بل ليس من مصلحة الخليج العربي أن يَدخل اليمن في دوامة أُخرى بعد تهدئة شكليَّة؛ فالانهيار سيكون أشدّ، وليس هناك شك بأن إصرار الرئيس بعد كل هذه الدماء والمآسي على موقفه في البقاء لسنة أو أشهر هو الخطر الحقيقي الذي يهدِّد اليمن وبالتالي يهدد أمن الخليج العربي القومي.. فإن كان قرّر التنحي لماذا يماطل؟ إنّ المخرج المبدئي قد يكون في اتحاد الجهد الخليجي وجسور العلاقات الحيويَّة والحميميَّة مع القبائل اليمنيَّة كمدخل لإقامة ضغط شديد لإقناع الرئيس بالتنحي, وحين يتنحَّى ومجموعته الخاصة ويؤدي اليمين رئيس وزراء مرتضى من الشعب يهيئ لانتخابات حرَّة... ستبدأ القوى السياسيَّة تتفاعل مع الحل بما فيها قيادة الميدان، لكن بقاء شخص الرئيس ومجموعته الخاصة هو المأزق المجمع عليه بأنّه أمّ العقبات... ولا يلوح في الأفق أمام الخليج العربي وقبل ذلك القيادات الوطنيَّة والشعبيَّة والشبابيَّة في اليمن إلا هذا السيناريو، ويكفي أن نقارن بين أن يبقى الرئيس أو يبقى اليمن؟ ثورة راشدة لقد قدَّم شباب ثورة اليمن أنموذجًا فريدًا في نجاحه وإشراقه حين ثبّت حراكه المدني في مجتمع قبلي مسلَّح وشدّد وحدته الوطنية واتحاده المدني مع حفاظه على تأصيله الإسلامي ونزعته العروبيَّة المستقلَّة المعروف بها الشارع اليمني, وما ميز ذلك الرتم المتجانس المتضامن أنه اتحد وأدار قضيته بعيدًا عن القالب الحزبي ولكن مع مشاركة من قواعده الشبابية دون التزام بأي إطار تنظيمي إلا إطار الثورة. ولقد أظهر أولئك الشباب والفتيان بأُزرهم وقمصانهم البسيطة معنى تجسيد قيم الحريَّة والتمسّك بحق تشكيل مجتمع العدالة والدستور والحكم الراشد رغم أتون الصراع الذي تفنَّنت في إثارته نخبة الرئيس واستخدمت كل الأسلحة الحربيَّة والإعلاميَّة والسياسيَّة, وظهر للعالم كيف أدار إنسان مأرب القديم وحضارة اليمن المجلَّلة بمدحه بالحكمة من رسول الأمَّة حركته المطلبيَّة والثوريَّة العادلة. المرأة اليمنيَّة أسطورة الشرق ورغم تفاهة وسخافة حديث الرئيس اليمني وفتواه وهو أحد أبرز حلفاء المخابرات الأمريكيَّة بتصنيفهم إلا أنه وجد أن فتوى الاختلاط لنساء اليمن المزعومة هي أولوية لمعالجة أزمة اليمن وليس مغادرته لكرسيه..!! إلا أن ذلك يبرز دوافع النظام في صنعاء من هذا الهجوم.. وهو نجاح المرأة اليمنيَّة في خط ثقافي نهضوي ثوري مبهر جمع بين أصالة الفكر الإسلامي التقدمي وتمسكها به وبين شراكتها في صناعة الإنسان اليمني ورعايته حين جُرح أو استُشهد أبٌ وأخٌ وزوجٌ وابن، وبين نزولها الميدان الثوري السياسي بحجابها ونقابها الذي أذهل الغرب وأفاق عليه الشرق.. كيف قدَّمت المرأة اليمنيَّة هذه المحاكاة والنموذج الفريد للحرية والهويَّة معًا لتكون بالفعل أسطورة الشرق الجديد.. امرأة تقدميَّة بالعهدة الإسلاميَّة. الثورة والبرنامج السياسي هذا العرض أردنا أن نوثِّق فيه دور الثورة اليمنيَّة وجهد شبابها, ولكن المنعطف المهم للغاية هو كيف يتحوَّل هذا الجهد والصناعة إلى شراكة إيجابيَّة في المشروع السياسي، ولعلَّ الخطاب المعلن من شباب الثورة ينحو إلى مقاطعة أي خطة أو توافق إقليمي لتنحية الرئيس.. وقد يكون ذلك مبررًا خاصَّة مع خشيتهم من تضييع حصاد الثورة, لكن ما يجب الحذر منه هو أن لا تُستدرج الثورة من داخلها أو خارجها في سلسلة صراعات من تكرار رفض كل الصيغ, وهذا الرفض قد لا يتحمَّلُه البناء المجتمعي لليمن؛ فالإيمان بمبادئ العدالة للثورات العربيَّة جميعًا لا يتعارض مع أن لكل مجتمع نسيج مختلف لا يمكن أن تتطابق فكرة النسخ واللصق عليه بالضرورة. ولذلك فالمخرج هو أن رفض الثورة للمصادقة على أي توافق لتنحية الرئيس إن تَمَّ ذلك يبقى في دائرة الممانعة السلبيَّة, أي عدم إلزامهم بالمصادقة دون أن يندفعوا لمواجهة مع ما قد يستجِدُّ في الساحة فترة تنحية الرئيس, وبالمقابل يستمرُّ تواجدهم في الميدان وضرورة تهيئة الحماية لهم والتمسك ببرنامجهم حتى تتحقَّق بالفعل مغادرة الرئيس وضمان أن الفترة الانتقاليَّة عهدت لإدارة نزيهة للانتخابات حينها تتحوَّل الثورة إلى مسار شريك سياسي معارض أو تجمع مدني راعي لمطالب الشعب... في كل الأحوال يجب أن تحذر كل الأطراف من إعطاء أي ضمانات لتفريق الاعتصام.. فتنحي الرئيس لا يمرُّ عبر الميدان بل بمغادرته لقصره.. وهو غير محتجز فيه بل هو من يحتجز اليمن، وعليه أن يُطلق الرهينة.