كنت من فرط تفاؤلي أتوقع أن علي صالح سيفاجئ العالم بتنحيه في لحظة من لحظات القوة المتبقية له وأمام الحشود التي يتم جمعها بذهب قارون أو صميل فرعون إلى ميدان السبعين، وامتنعت عن التفكير في وسائل الجمع ( ذهب البنك وصميل الشيخ ) وانشغلت برسم مشهد إعلان التنحي، ووصل بي التفاعل مع تخيلاتي ان كتبت مقالا عن هذه اللحظة الرائعة في تاريخ اليمن! وبعد مجزرة جمعة الكرامة جاء صاحبي ثائرا يسألني: هل تتوقع بالفعل أن يفعلها هذا الرجل؟ قلت: وما المانع؟ أنا الآن أكثر توقعا لذلك؛ فمن غير المعقول أن يرى أنهار الدماء، ويدرك أن ذاته في كفة ودماء شعبه في كفة ثم يختار الكفة التي هو فيها وحده مع ثلة من المنتفعين بحكمه، خصوصا مع كل ذلك الكلام الذي حفظناه جميعا عن حكمته و.... وما أن انتهت كلماتي السابقة حتى تحول صاحبي لشخص آخر لا أعرفه، وجاءت كلماته كالرعد وهو يردد على مسمعي ، كيف تتوقع ذلك؟ والله لن يحدث ذلك أبدا! وتسمرت للحظات من جرأة صاحبي على اليمين على أمر لم يأت بعد، غير أنه سرعان ما أنهى لحظات الاندهاش مظهرا سبب مسارعته لليمين السابق بأسئلته المتتابعة .. كيف يمكن أن يوفق لهذا الانتصار؟ كيف يمكن أن يوفق في الاحتفاظ بما تبقى له من كرامة فيتنازل أمام الجموع ؟ هل يمكن أن تكتب مثل هذه النهاية المشرفة لرجل أبكت أجهزته طفلة بريئة فأبكت ملايين المشاهدين في العالم وهي تبكي أبا فقدته؟! وفجأة .. لاحظت على صوت صاحبي تغيرا آخر، إذ أصبح صوتا باكيا بمجرد مجيئه على ذكر مشهد الطفلة الباكية ، ولم يكن من الصعب معرفة سر تغير صوته إذ يندر أن يرى ذو قلب تلك الطفلة البريئة التي تتحدث عن قتل أبيها ثم لا يتفاعل مع الموقف. وبعد لحظات صمت عاد صاحبي بصوت غاضب مرة أخرى يقول: كيف تتوقع أن يستغل الرجل هذه الفرصة العظيمة فيتربع على قلوب الكثيرين الذين سيعتبرونه حينها بطلا ؟ وبدأت أهدئ خاطر صاحبي قائلا له وما يدريك لعل قريبا من الرئيس يقنعه بالتنحي فتكتب له عند ربه وعند الناس مأثرة خالدة كتلك التي كتبت لرجاء بن حيوة حين أشار على سليمان بن عبد الملك بتولية عمر بن عبد العزيز فلا تزال الأمة تترضى عن رجاء رغم تعاقب الأيام وتوالي القرون! وانتظرت أن تأتي المشورة، و طال الانتظار، ثم جاء المستشار وأشار على صالح لكن بمشورة أخرى غير التي توقعتها فإذا به يوجه كلامه إلى ما لا يسمح المجتمع بتناوله وهكذا تم الحديث عن الاختلاط ، ولم يكن المهم لدى الشعب أن يكون ذلك الكلام جاء نتاج مشورة أو جاء من ذات المتكلم بل المهم هو أن الأمر قد حصل وتلك هي المشكلة. لقد كان الجميع في كل لحظات الثورة يناجون ربهم منفردين كما يدعونه مجتمعين في الميادين ..ربااااه متى ينزاح الكابوس وأي هول نرى ونعيش ، جمعة التسامح خالية من أي تسامح، وكلمة الحوار مكتوبة على صميل غليظ في جمعة الحوار! فأي حوار هذا الذي يتم عبر العصي والرصاص؟ وجاءءءءت جمعة التصالح وقفزت أقول لصاحبي أرأيت هاهو مستشار آخر يحسن صنعا في صنعاء، ولعله قد قرأ لصالح قصة الحسن بن علي وأقنعه أن يقتدي به ! وسنشهد التنحي في جمعة التصالح،ثم سندخل في عام الجماعة فيجتمع الشعب كله بعد التنحي متناسين الخلاف متعاونين على البناء و .... قطع صاحبي كلامي بضحكة طوووووويلة وغادر وهو يخاطبني ضاحكا: لا تفوت خطاب التصالح على شاشة الفضائية اليمنية بعد الجمعة مباشرة وأرجو أن تسجل لحظة التنحي! وأسرعت لأسجل خطاب التصالح ولحظة التنحي بالفعل ، وعندما لم أصدق ما سمعته في المرة الأولى أعدت السماع مرة ثانية وثالثة .. يا إلهي إنه خطاب ناري خال من نبرة التصالح ورغم الترحيب بالمبادرة إلا أن مجرد الترحيب كان توابل تضيف للخطاب حرقة أخرى ولا تطفئ لهيبه كما يفترض. لقد كان خطاب تحدي .. نعم تحدي وليس مصالحة ، لكن من يتحدى من ؟ من الذي تحدى فجاء الرد عليه" سنقابل التحدي بالتحدي" ؟ هل كان المشترك ؟ لا .. فالمشترك حتى تلك اللحظة يعتبر محاورا على مائدة الأشقاء في الخليج والتواصل معهم مستمر ومن غير المعقول أن يكون التحدي موجها لمن لم يكن حينها متحديا . إن طرفا واحدا هو المتحدي من البداية حتى هذه اللحظة ، وهو طرف يرفض كل اتفاق لا يحقق مطلبه ، ان الطرف الذي يعلن تحديه بصراحة ويرفض أي حوار بضمانات هو طرف واحد وهو الشعب في الميادين! فهل يعقل أن يصل الأمر بصالح أن يتحدى شعبه ؟ وهل يدرك مستشاروه المقربون معنى أن يتحدى فرد أيا كان شعبا خرج يطالب بحريته بأمنه بغذائه .. ؟ ان كل تحد يوجه للشعب أي شعب مهما كان تحديا ناريا تخمده غضبة الشعب الهادر في الميادين : أنا الشعب زلزلة عاتية ستخمد نيرانهم غضبتي! صاحب الفخامة.. ندرك جميعا أن الاخبار المسربة عن بكاء مبارك بعد إبلاغه بقرار تحويله الى سجن طرة ، ومشاهد المحاكمة وغيرها تدفعك للتوتر، لكن المفترض أن يؤدي هذا التوتر للبحث عن نهاية أفضل من نهايته، وغير المعقول أن يؤدي التحدي الى نهاية أفضل خصوصا إن ثبت أن التحدي موجه للشعب . كل الرجاء .. . أن لا يكون التحدي موجها للشعب .