تعود علاقتي بالشاعر الدكتور غازي القصيبي إلى بداية الثمانينيات وقت أن قرأت له قصيدة عمودية أعجبتني جدا في (المجلة العربية) التي تصدر في العاصمة السعودية، فأرسلت تعليقا على القصيدة التي لا أتذكر اسمها الآن، ونشر التعليق في إحدى صفحات المجلة، وبعد أسبوع واحد من صدور المجلة أفاجأ بطرد كتب مرسل من مكتب وزير الصناعة والكهرباء بالسعودية الدكتور غازي القصيبي على عنواني بالإسكندرية. فرحت جدا بالهدية القيمة والتهمتها قراءة، وكانت عبارة عن دواوين شعره وكتبه في موضوعات أخرى، ثم بدأت أكتب دراسات وعروضا لها في جريدة (الجزيرة) السعودية، وبدأت رحلة المراسلات البريدية بيني وبين الشاعر الوزير الذي كان يحرر خطاباته بخط يده الرائق. وظلت العلاقة ممتدة بيني وبين الوزير الشاعر حتى قرأت خبر إقالته من منصبه الوزاري وكان وقتها وزيرا لوزارتين: الصحة، والصناعة والكهرباء، بسبب قصيدته( رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة)التي وجهها إلى الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز والتي يقول في مطلعها: بيني وبينك ألف واش ينعب ** فعلام أسهب في الغناء وأطنب صوتي يضيع ولا تحس برجعه ** ولقد عهدتك حين أنشد تطرب نشرت القصيدة على صفحة كاملة في جريدة (الجزيرة) السعودية التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت خالد حمد المالك، وكانت تصلني يوميا عن طريق البريد على عنواني بالإسكندرية. عندما عرفت بخبر إقالة القصيبي من الوزارتين وإقالة المالك من رئاسة تحرير الجزيرة (التي عاد إليها بعد سنوات طويلة) بسبب هذه القصيدة، توقعت أن لا يصلني العدد المنشورة به القصيدة، بعد أن عرفت بخبر مصادرته، ولكن يبدو أن النسخ المرسلة بالبريد لم تصادر، فوصلتني نسختي بعد أيام قليلة كالعادة، وبها القصيدة على صفحتها الكاملة، فتمعنت فيها، وأدركت جمالياتها، وقرأتها على الكثير من الأصدقاء الشعراء، وطلب تصويرها كثير منهم بالإضافة إلى أساتذة قسم اللغة العربية بكليتي الآداب والتربية بجامعة الإسكندرية خاصة الذين عملوا من قبل في السعودية ويعرفون قدر شاعرية القصيبي ومواقفه. وانتشرت قصيدة القصيبي بيننا، وأخذت أفكر في العلاقة الإبداعية بين المتنبي والقصيبي، ولماذا ارتدى القصيبي قناع المتنبي في هذه القصيدة وغيرها؟ وأعدت قراءة ديوانه (الحمى)، بعد إعادة قراءة قصيدة (الحمى) للمتنبي، وعقدت دراسة أدبية مطولة بين حمى القصيبي وحمى المتنبي خلصت فيها إلى أن حمى القصيبي كانت مرآة لعصر الانكسار والأحزان العربية والهموم الفردية، وحمى المتنبي كانت مرآة لعصر البطولة والشجاعة والفروسية. كنت أتمنى لقاء القصيبي والجلوس إليه والتحدث معه خاصة أنني كنت أضعه في مرتبة شعرية عالية إلى جوار نزار قباني في استخدامه للمفردات السهلة والتراكيب الشعرية المواتية والمبتكرة والموهبة الرفيعة العالية وخاصة في شعره العمودي والتفعيلي، أما رواياته وكتبه في الإدارة فلها حديث آخر. بعد أن غادر القصيبي السعودية للعمل سفيرا في البحرين، إثر (رسالة المتنبي الأخيرة)، واتتني فرصة عمل في إحدى الشركات الإعلامية بالرياض، ثم في جامعة الملك سعود، ولكن لم يكن القصيبي هناك. وعندما استقر بي المقام في الإسكندرية مرة أخرى اقترح علي الصديق الشاعر أحمد محمود مبارك أن نتشارك معا في كتاب عن القصيبي خاصة أن مبارك له مقالات أيضا عنه، فاتفقنا مع إحدى دور النشر في الإسكندرية على إصدار كتاب بعنوان (تأملات في شعر غازي القصيبي)، أرسلت منه نسختين للقصيبي بالبريد وكان وقتها سفيراً للسعودية في لندن، فإذا به يرسل إلى دار النشر طالباً مئة نسخة من الكتاب بالسعر الذي يحدده الناشر. وعندما كلفتني إحدى دور النشر السعودية عندما كنت أعمل هناك بكتابة ثلاثين قصيدة للأطفال عن معالم المملكة العربية السعودية، لتذاع بعد ذلك يوميا في إذاعة الرياض طوال شهر رمضان المبارك، أرسلت القصائد لغازي القصيبي على عنوانه بالسفارة السعودية في لندن للنظر فيها وفي إمكانية كتابة مقدمة لها، ولكنه كتب لي معتذرا عن كتابة مقدمة للقصائد التي ستطبع في كتاب بعد ذلك، ذاكرا أنه من الأفضل أن تقدم القصائد نفسها للأطفال، بدون مقدمة من أحد. احترمت جدا رأي القصيبي في هذا الأمر، واحترمت أيضا عدم إهماله لأي رسالة تصله من الكتاب والأدباء حتى ولو كان يخالفهم الرأي. رحم الله القصيبي ورحم أيامه، فقد كان عاصفة أدبية وفكرية سعودية رائدة في الخليج العربي.