قد تكون الشاعرة سوسن السباعي رتبت المقاطع كما اتفق أو كما كتبت لكني أجد أن الكتابة هي التي تفرض نفسها على الأشياء لتعيد تشكيلها .. فكل مقطع يقابله مقطع آخر . فكما أن الأمل موجود لكن اللوعة وأدته .. والحلم النابت تجابهه لغة أخرى والرغبة لا تولد إلا الغربة.. العناوين تشي بشيء من النص أو بالنص.. فالأمل والقصائد الأخرى تحاول أن تقول شيئاً خفياً لكن الشاعرة نفسها تعرفه تماماً.. فماذا قالت وماذا عرفنا نحن القراء ؟؟؟ -1- أمل يراودني زمان كله أمل بأني سوف أقطف من جبين الفجر أغنيةً بعينيها يصلي وحده العسل ... يراودني زمان : عن كآباتي سأرتحل فكيف تقطعت في الصدر أوتار وخانت خطوتي السبل قد تكون الجملة الأخيرة مطروقة بحكم اللغة والقراءة المستمرة لكنها هنا تساؤل خاص تملكه الشاعرة وتحاول به أن تجد لاستفهامها رداً منطقياً لكنها تتركنا دون إجابة .. الأمل الموجود والزمان الذي تحلم به موجود فما بال الأوتار والخطوات تخون الدرب ؟؟؟ هل لأننا محدودون بمكان وزمان معين ؟؟ هل لأن الشاعرة بحثت عن الجسد وأهملت الروح ؟؟؟ قد تكون أعمارنا محدودة بزمان وأحلامنا محدودة بمكان وزمان معاً .. لكننا كأرواح غير محدودين بأي أفق مهما كان.. لأن الأوتار هي ما تصنعه الروح في مناجاتها الدائمة للخالق والكون والبحث عن الذات الحقيقية.. ولان الخطوات هي التي ستبدأ حين نحلق بعيدا عن ثقل هذا الجسد المرتبط بالجاذبية الأرضية لثقل التراب الذي يغلف هاماتنا. 2 -لوعة أجلس في حديقة المنزلِ . أصافح النبات والأشجار ويصرخ الخريف في داخلي وتستبد النار ... المقطع التالي وهو المكمل والمقابل للمقطع الأول (أمل) يشي بما وصلنا إليه في متابعة تداعيات الفكرة لدى الشاعرة فهي هنا (تجلس في حديقة المنزل) ولنفصل الكلمات فالجلوس يعني بالضرورة الراحة والتأمل والحديقة هي الفسحة التي يتنفسها أصحاب البيت وساكنوه.. والمنزل هو بالضرورة الأهل والزوج والأولاد .. وهذا الكلمات التي أتت كرموز تعيها الشاعرة افتتحت المشهد التالي ..(أصافح النبات والأشجار) الكلمتان قد تكونان مرادفين لمعنى واحد فكل شجر بالضرورة هو نبات ولكن ولأني كما قلت أرى أن الكتابة تفرض نفسها علينا سأقرأ بعين أخرى . فالنبات توحي بالنمو والسمو أيضا أي أنها تتحدث عن الحياة .. أما الأشجار فهي الرسوخ والثبات وربما النهاية وهنا تتحدث الشاعرة بالضرورة عن العمر والزمن .. الذي أعلنته صريحا في المقطع الأول (يراودني زمان).. ثم نأتي إلى (ويصرخ الخريف في داخلي) والخريف هو ذهاب الأوراق الخضراء التي تطالعها الشاعرة في حديقة منزلها.. وهي ذهاب العمر أيضا في خريفه وفلماذا تستبد النار ؟ النار التي لا تستعر إلا بالحطب وهو جفاف الأشجار موتها ..مما يولد اللوعة التي عنونت بها الشاعرة مقطعها التالي المقابل للأمل. 3 - حلم أقبع في محارتي السوداء سجينةَ الوقت وتمضي عربات الفرح الثقيلة أشعر بالإعياء تسقط أعضائي على ظلالها كأنها شجرة تآكلت في رحلة التشرد الطويلةْ تحلم بالقصيدة الْجميلةْ ... في كل قصيدة هناك ومضة جميلة تحمل القصيدة كلها .. وتكسبها جمالها وهنا في هذا المقطع (الحلم) ومضت نجمة حملت القصيدة إلى مشارف أخرى .. لنقرأ معاً ..(اقبع في محارتي السوداء.. سجينة الوقت) قد يكون القارئ أكثر وعياً من الكاتب فيما يكتب فإن استطاع أن يكتشف الخيوط الخفية للكتابة فهو بالتالي سلطة تعري النص وتعلن مشاعر الكاتب للملأ .. الوقت ثانية .. الذي حضر في المقاطع السابقة بصراحة في هذه الجملة (يراودني زمان) أو ضمنا في ( النباتات والأشجار- الخريف) وهو ما يؤرق الشاعرة ويقض مضجعها .. وتمضي عربات الفرح الثقيلة .. والحقيقة أن عربات الفرح من المستحيل أن تكون ثقيلة أبدا لأن الفرح خفيف جدا وثقلها يدل على المزيد المزيد من الفرح لكن الشاعرة وضعت الثقل ليس في الفرح ولكن بما يشكله الفرح .. فالفرح الذي نراه ونعرف أنه سيمضي دون رجعة أو أننا سنغيب عنه هو فرح ثقيل .. أو لنقل الفرح الذي سوف لن نفرح به حين يأتي.. والعربات تدل على الذهاب مثلما تدل على القدوم .. وهنا أصل إلى الومضة التي حملت القصيدة (تسقط أعضائي على ظلالها.. كأنها شجرة تآكلت) تعبير غاية في الروعة والجمال وأيضا غاية في الأسى .. فسقوط الأعضاء بالضرورة تمدد الزمن على الجسد.. وأخذه منه بهجته وسقوطها على الظلال الروعة فيها أنها راكمت الزمن وطوته على نفسه كما تفعل الأشجار المتآكلة أو الميتة .. فهي تموت واقفة .. ما جاء بعد هذه الجملة الومضة لا أجد له مبرراً وغيابه لن يؤثر في المقطع وجماله شيئا لأن الجملة قالت كل شيء.. القصيدة الجميلة دائما نحلم بها وهي ليست كلمات بل هي الحياة بزهوها هي النبات والحب والأطفال والطيور والفرح .. هي كل ما هو جميل في هذه الحياة. 4 -لغة أخرى ينتصب البيت الروحي أمامي مرت كفاكَ هنا قدماك على هذي الفسحة أزهرتا عيناك تسمرتا فوق زوايا مكتبتي وأنا ينبوع لغات لا أحد يقرؤني . هذا المقطع مناجاة (له) مناجاة حسية وكأنها تعاتب الفقد.. أو الغياب .. وكأنها تعاتب الزمان الذي غيب الآخر .. (ينتصب البيت الروحي أمامي) وهذا البيت لا ينشئه إلا الحب .. واللقاء .. وهو الذي دللت عليه الكلمات التالية (مرت كفاك هنا.. قدماك على هذي الفسحة أزهرتا..عيناك تسمرتا فوق زوايا مكتبتي .. ) وجود الأخر الحقيقي والكامل يعلن الألم الذي تخفيه الكلمات .. فالأخر موجود بكفيه وقدميه وعينية .. أي بكليته فما مبرر الألم ؟ ( لا أحد يقرؤني) هنا لم تعد الشاعرة تكتب عن نفسها بل عن الأنثى العاشقة والتي لا تجد من معشوقها سوى الألم الذي يخلفه عدم معرفته لغتها الحقيقية وعدم قدرته على القراءة .. ( لا أحد يقرؤني) صرخة ألم بلغة شفافة لكل قلب يحب ولا يجد ممن يحب سوى الصد والهجران بدافع الجهل أحيانا وبدافع الأنانية أحيانا أخرى وبدوافع كثيرة جدا في كل الأحيان. 5 - رغبة قلب يعلو برذاذ الرغبة تتدحرج فيه كرات الحزنْ يتقاذفها أطفال أيديهم ملأى بفراشات تدهشها الألوان الملتهبة قلب يتوضأ بالشعر ولا يقرأ إلا خلف إمام الغربة ... مازلنا في حديقة المنزل الحقيقي أو البيت الروحي للشاعرة في نصها الجميل هذا تأخذنا إلى أفكارها الصريحة وصراخها الهامس .. الرغبة الجميلة بدليل كلمة الرذاذ .. لكنها محكومة بالحزن .. تتفاعل في قلب يعلو .... هل هذا المقطع هو المقطع المكمل للصرخة التي أتت في المقطع السابق ؟؟ والأطفال لماذا حضروا بكل هذا الجمال في مقطع حزين ؟؟؟ لا استطيع قراءة هذا المقطع بكل أبعاده فأنا حينما أمر على الكلمات اشعر بنبضها ومجرى الدم في شرايينها .. وهنا القلب يضعنا ثانية في القوقعة السوداء.. والوقت الذي خذل الكاتبة والآخر الذي لا يفهم اللغة والأطفال الرائعين لكنهم أيضا يقفون على مسافة الزمن التي تخذل الشاعرة في كل المقاطع..الغربة هنا لا أظنها غربة عادية بالابتعاد عن الوطن لكنها غربة ذاتية .. غربة مؤلمة لأنها إمام يقف بالمرصاد لكل صلاة لكل رغبة باكتمال الحلم وتحول المنزل الروحي والحقيقي إلى منزل للفرح الجميل وليس الفرح الثقيل . 6 - غربة يقتات الزمن المر دمي والروح الضيقة تسافر في الروح الرحبةْ لا شيء سوى حزني يعوي في هذا الليل ويهوي ومراياه هشيم تذروه رياح الغربة نعود للزمن ثانية في مقطع ختامي لكنه هنا (زمن مر) لأنه يلغ في دم الشاعرة ويقتات الدم .. وكأنه بهذا يأخذ منها الحياة فالدم بالضرورة حياة ومضي الزمن عليه هو انتهاؤها .. وهو ما فصلته في الكلمة التالية (الروح الضيقة ..) عندما تضيق الروح تتخلص تدريجيا من الجسد .. هل هذا ما أرادت قوله الشاعرة .. والروح الرحبة .. هي الأفق الذي ستسافر إليه ؟؟ مؤلم ما وجدته في قراءة النص والحقيقة أنني كما يحدث معي في بعض النصوص حين انتهي منها أقول لنفسي .. ربما أن عدم قراءة النص والتوقف عند كلماته أفضل.. لقد قرأت النص مرة أولى وترددت في الكتابة عنه لأنني تعودت أن القي نظرة كاملة على ما سوف اقرأ وبعض النصوص تجعلننا نتردد .. هذا النص منها .. (لاشيء سوى حزني يعوي.. في هذا الليل ويهوي .. ومراياه هشيم تذروه رياح الغربة ) رغم الألم الجارح في هذه الكلمات النهائية إلا أنني استطيع أن أقول أن هذه المقاطع والنصوص ستنتج مقاطع أجمل قادمة .. .عندما تسكين الروح ويخف الفرح الثقيل ويزهو وتصبح النظرة أعمق فتفرج الروح لنفسها جناحين من قناعة واستقرار وتحلق عليا.. عندما نعلم أن أحبتنا وإن لم يستطيعوا أن يقرؤونا لكن قلوبنا الحانية هي التي تحمل لغة الحب لا جهلهم بلغتنا.. حين تمضي الأم لتقبل جبين طفلها .. حين تمد يد الصبية لتعانق حبيبها .. حين تمضي العينان تتأملان بفرح الحديقة الجميلة لمنزل صغير .. حينها نعلم أن قلوبنا وحدها مرسى الحب ومبدؤه.. العزيزة سوسن قرأت النص وحاولت أن أقف على كلماته لكني وقفت على قلب مفعم بالحب والمحبة .. هذا النص ليس لك ولكنه لكل إنسان في هذا الكون لكل قلب أضنته الغربة والحب.. ونزعه الزمان الراكض من أماكنه التي يحب.. النص مؤلم لكنه جميل بألمه كما الحياة .