بلادنا واحدة من دول كان من المفترض أن يكون مفهوم التصالح والتسامح قد ترجم فيها بعد تحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 67م، لكن هناك ظروفاً أو لنقل أيادي أثرت سلباً على ممارسته، فإذا سلَّمنا أنها ظروف فذلك يرجع إلى قصور أو عدم فهم لماهية ذلك، أما أن قلنا إنها أيادٍ فإنها ارتأت أن العمل على تطبيق ذلك يمثل خطراً على مصالحها،وبقاء الحال على ما هو عليه من تجاذبٍ وتنافر فضلاً عن استمرار الشحناء والبغضاء بيننا يمكنها من فرض سيادتها على العقول والثقافة وحتى التفرد بإدارة حياة المواطنين واحتكارها بأيديهم. إننا ونحن نتحدث عن التصالح والتسامح فمن الواجب أن ندين بالشكر للخالق سبحانه وتعالى، ثم لكل من فكر وساهم وحضر إلى جمعية أبناء ردفان التي حملت لواء الفكرة، ولابد من التذكير بالدور الذي لعبته صحيفة " الأيام" وناشراها الفاضلان: هشام وتمام باشراحيل، التي استطاعت جذب الجنوبيين وقربت فيما بينهم البين، وأحسبُ أن ذلك يعد شكلاً من أشكال التصالح والتسامح. أن الدور الذي يجبُ أن تلعبه المنتديات الثقافية وخطباء المساجد وعقال الحارات والأقلام الصحفية ومنظمات المجتمع المدني وقبل هذا وذاك الأسرة والمدرسة، يجب أن يعكس وينعكس على أرض الواقع، إننا عندما نتكلم عن التصالح والتسامح اليوم وفي هذه الظروف والواقع الذي أفرزته حرب 94م التي اجتاحت الجنوب وعمدت إلى إلغاء الوحدة السلمية عندما نتكلَّم سواءً في مجالسنا أو لقاءاتنا أو ندواتنا فلا يعني بأي حالٍ من الأحوال اختزاله في مرحلة معينة كما قد يفهم البعض، لكننا يجب أن نثبت وبما لا يدع مجالاً للشك من خلال العمل بجدية وصدق.. بقلوبٍ سليمة وعقول مستنيرة أن القصد من ذلك العمل العظيم الذي نتمنى من ربنا أن يرفع درجاتنا فيه، هو بالمفهوم التاريخي الشامل، مع كل فُرقاء المراحل منذ 67م حتى اللحظة، وأَجزم أن ذلك هو الطريق الأمثل والأسلم للخروج مما نحن فيه من تشرذمٍ واختلافات، بغية تشكيل صوت جنوبي موحد، نستطيع من خلاله تقديم أنفسنا للعالم، وأن نرى العالم بما يريد ويتوافق مع مصالحه لا كما نرغب ونطمح إليه فقط. أن التصالح والتسامح ليس مجرد شعار نردده أو نكتبه ولا كلمة تلوكها ألسنتنا في لحظة معينة بل يجب أن يكون استمراراً للوفاء بالعهود والالتزام بالمواثيق واحترام الآخر، وإن تصالحنا وتسامحنا مع بعضنا البعض، ليس موجهاً ضد أحد،بقدر ما هو تعبير عن سمو أخلاقنا وحُبنا،وانعكاس لروح ثقافتنا.. إننا ونحن ننهج هذا الطريق فإننا نؤسسُ لمرحلة جديدة قادمة تدعونا إلى أن نعمل معاً وبمنتهى الأخلاق والصدق والثقة.. مرحلة قد تفُرز حالاتٍ يستغلها ضعاف النفوس من الذّين لا يحلو لهم العيش إلاَّ على نكء الجراحات وتعميقها وبث روح الفُرقةِ بتبعاتها الشائكة والموجعة. لذلك فإننا جميعاً معنيون بأن نكون على درجة من الوعي والحرص في تعاملنا مع المعطيات التي نعيشها حالياً، أو مع المخرجات القادمة. لقد لمسنا خلال الأربعة أو الخمسة أعوام من عمر الحراك الجنوبي أن الشباب من مختلف الأطياف قد تقاربوا أكثر وفرض عليهم الواقع أن ينسوا جراحات الماضي المقيت، لذلك أرى من واجب الجميع استثمار هذه الحالة من التوحد والألفة وروح التعاضد والمبادرة ودعمها بما يخدم الجميع. صحيح أنه قد تحصل مشاكل تؤدي إلى إراقة دماء أو مصادرةٍ لحقوق معينة بتغذية ودعم من جهات لها مصلحة في ذلك، وتلك في نظري أحد المخرجات والثقافة التي ورثناها ووجدنا أنفسنا نتعايش معها بلا حول ولا قوة منا ثقافة ما بعد حرب 94م التي غلب عليها الطابع القبلي بمفهومه المتخلَّف، أقول أن مثل تلك الأحداث أو المواقف تضعنا في المحك والتعامل معها وحلَّها لن يكون إلا باستخدام وحضور العقل والاستفادة من إرث الآباء والأجداد في سمو قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، وقبل كل ذلك العودة إلى شرع رب العالمين مع التأكيد على أن الشريعة الإسلامية وصلت في تسامحها إلى درجة حق الولي في قبول الدية والتنازل، ويمكننا أيضاً أن نستشف أن مفهوم التسامح في الفقه الإسلامي يجب أن يتطابق أو يترجم بشكل يتواءم مع ثقافة التصالح والتسامح التي نتحدث عنها، لما لذلك الأمرُ من أهمية بالغة في خلق مجتمع آمن نتعايش فيه جميعاً، لأننا إذا ما استدعينا الماضي المتخلَّف فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا في عداءات- والعياذ بالله تكون نتيجتها هدم مقومات كل عملٍ جبار نقومُ بهِ. إننا اليوم بأمس الحاجة أن نكون قريبين من الحدث وأن نتعامل مع ما يحدث بكل حذر ودقة، وألاّ تنزلق قدم أحد منا نحو المنحنيات والمطبات التي يريد البعض من خلالها العودة إلى ماضٍ سحيق،قد ولَّى أدراج الرياح غير مأسوف عليه، إن الواجب يفرض علينا أن نجعل للعبرة والمقارنة الصادقة حيزاً واقعياً في مضمار حياتنا، وأن نفكر بعقولنا التي أكرمنا بها رب العالمين، من أجل أن نعيش الواقع ونستوعبه ونواكبه ونسعى جاهدين إلى ردم فجوات الخلافات الهشة، وتهشيم أحجار التعثر، فبعد أن تبين الرشد من الغي بفضل الله، فأمامنا وبأيدينا أن نتعايش مع الزمن ومتغيراته ونسير معه ونواكبه، وأما العكس وهي النهاية لأن عجلات قطار الزمن ستدك قضبان الجامدين والعدميين. وإنطلاقاً مما تقدم أرى أن السبيل الرئيس لترجمة استخلاص هذه الندوة لن يتأتى أو يكتب له النجاح إلاَّ من خلال الاعتراف بالآخر ومنحه حقه في التعبير عن رأيه والاستماع لصوته مهما تباينت وجهات النظر، وتلك هي أنسبُ وأقصر الطُرق للوصول لما نبحث عنه ويطلبه منا الآخر وهو الصوت الجنوبي الموحد الذي من خلاله وبه نستطيع أن نوصل صوتنا للخارج،نتمكن أن نسمعهم رسالتنا الهادفة إلى حق شعبنا الجنوبي في تقرير مصيره صوب الغد الذي تحلُم به الأجيال. فهل سنكون عند مستوى التحدي؟