في تاريخنا العربي الإسلامي ومآثر كثيرة إذا تأملناها نجدها تزودنا بالعديد من الدروس والعبر التي نحتاجها في حياتنا المعاصرة. تروي كتب التاريخ انه في عهد الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي اندفعت الجيوش الإسلامية صوب آسيا الصغرى، لتقرع أبواب القسطنطينية عاصمة دولة الروم حينذاك، وحاولت أن تشق طريقها إلى أوروبا، لتحمل إليها نور الهدى. وكان قائد جيش المسلمين حينذاك مسلمة بن عبدالملك، وكان جيش المسلمين قد اصطدم بقلاع الروم وحصونهم المنتشرة على أطراف الشام لحماية الروم من الزحف الإسلامي، ولاقى مسلمة من هذه الحصون عنتاً شديداً، وكان في أحدى الحصون مدافعون أشداء من جنود الروم، وقفوا بصلابة لصد هجمات المسلمين، وحاول مسلمة أن ينقب الجدار الذي يحمي الحصن، فكلف بعض الفدائيين من المسلمين بالقيام بهذه المهمة، فكان كلما تقدم منهم رجل لينقب الجدار أصابته سهام جنود الروم فيسقط شهيداً، فتتابع الشهداء واحداً بعد الآخر، من دون أن يتمكنوا من عمل النقب، فتعقد الموقف. وفجأة خطف الأبصار فارس ملثم انشقت عنه صفوف المسلمين، فاندفع كالسهم إلى الحصن في عزم وشجاعة، فانهالت عليه السهام والأحجار والحراب فلم يأبه بها، ولم يلتفت إليها حتى وصل إلى الجدار فأحدث فيه ثغرة واسعة، ووقف وحده في مواجهة الموت حتى تمكن من الثغرة، فدخل من النقب ليفتح للمسلمين باب الحصن من الداخل فتم له ذلك. وبسبب ما فعله صاحب النقب انتهت الموقعة بانتصار المسلمين على الروم. وبعد أن كتب الله للمسلمين النصر وقف مسلمة قائد جيش المسلمين، ينادي في الجيش: أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟. وتطلعت الأعين لترقب البطل النقب، فلم يبرز أحد، فصاح مسلمة: أين البطل؟ أين ذهب صاحب النقب؟ فلم يرد أحد عليه، ولا مجيب لندائه. وذهب مسلمة إلى خيمته، وبينما هو فيها تقدم إلى الخيمة رجل مقنع يطلب الإذن لملاقاة القائد، فلما أذن له دخل فسأله مسلمة قائلاً: أأنت صاحب النقب؟ فقال: أنا أخبركم عنه، ولكن صاحب النقب يأخذ عليكم عهداً ألا تسردوا اسمه في صحيفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه عمن هو ثم ولى منصرفاً وهو مقنع لم يعرف مسلمة ولا أي أحد من رجاله من هو. وظل اسمه مجهولاً لا يذكره الناس إلا بصاحب النقب. لقد ضرب صاحب النقب مثالاً ًحياً للناكر لذاته، والبطل الذي يضحي بنفسه من أجل الآخرين، فأعطى أروع الأمثلة للكفاح، وأعطى نموذجاً حياً للفدائي الشجاع الذي لا تحركه المطامع والمغانم الدنيوية الرخيصة، لأنه على يقين يكافح من أجل رسالة سامية، ومبادئ عظيمة، تحركه في ذلك قوة الإيمان. والدرس الذي نتعلمه من صاحب النقب أن الفدائيين الذين صمدوا في مواجهة الأعداء، والذين خاضوا معارك الشرف دفاعاً عن الأمة وحريتها ودينها، لم تكن تحركهم الرغبة في الحكم ولا يدفعهم إلى ذلك الحرص على الغنيمة أو السعي للسلطة، ولم يكونوا أبداً يلهثون وراء الجاه والمنقب، ولم يسعوا لتحقيق مصالح خاصة، أو يبحثوا عن امتيازات الوظيفة والمركز، كما لم يكونوا يتباهون أو يتفاخرون بما أسهموا به في القتال، من أجل نشر الإسلام والدفاع عنه. أليس جديراً ببعض مناضلي الثورة اليمنية الذين اعتبروا الثورة غنيمة أن يحذوا حذو صاحب النقب في إنكار ذواتهم، واجتناب إدعاء النضال وخوض البطولة في معارك لاناقة لهم فيها ولا جمل، من أجل الحصول على امتيازات السلطة إلى أبد الآ بدين. ذلك أن بعض الذين أوصلتهم الثورة إلى مواقع السلطة توهموا أن هذا الاستحقاق سيلازمهم وأحفادهم مدى الدهر، واعتقدوا أن من حقهم أن يستميتوا من أجل البقاء في مواقعهم، وأن أيه محاولة للتصحيح والتغيير إنما هي تستهدفهم، لذلك نراهم دوماً يعمدون إلى عرقلة أية عملية تصحيح، والوقوف حجرة عثرة أمام أية حركة تغيير في المجتمع. فأين هؤلاء من صاحب النقب؟