كانت تمشي وحيدة..والشارع الطويل ، تنحته ظلمة حالكة هذا اليوم على غير العادة.. تقطع صمته الرهيب ، مابين الفينة والأخرى، انكسارات ضوء السيارات المارقة، ومواءات قطط ضالة، تلتطم جروحا، حول البقايا، لتروي عطشا وجوعا لا ينتهي .. كانت تمشي بخطوات وئيدة ، تتجمع فيها رويدا رويدا مغاصات داخلية، تعلن عن اقتراب الساعة..(ساعة ولادته) . خبرتها إحدى الممرضات هذا الصباح ، بأن الوقت قد حان (وفدوى) تستجديها، المبيت هذه الليلة فقط، وغدا ستلتجئ إلى (دار الأيتام) لإيداع طفلها هناك، تعقب الاستجداءات دعوات صالحة بأسماء كل الأماكن المقدسة.. يستحيل.. يستحيل علي فعل ذلك قالت الممرضة بجفاء..أين كان عقلكِ ؟ ولماذا لم تفكري في هذه اللحظة ؟؟ تفعلونها...ثم... اسمعي هذه عيادة خاصة..ويلزمك عقد الزواج ووثيقة...ووو تمسكت (فدوى) بحائط المبنى وهي تغادره ، وتعب أصفر ينظمها حبيبات عرق واختلال توازن... تاهت في الطرقات طوال النهار ، متسكعة بالزوايا ، باحثة عنه... سألت كل الأصدقاء.. لا أحد يعرفه..لا أحد يتذكره.. لا أحد يريد أن يتذكره... - (الآن اجترعي لحظات متعتك الساقطة ألما) .. راقصها بالتهكم وبكلمات جارحة أحدهم .. توقفت .. أحست بأنه يهبط ..سينزلق الجنين ...أطلقت آهة مكتومة، فالصمت سيد المكان وأدنى حركة ستجلب لها متاعب أكبر وأكثر.. اشتد الألم كثيرا، مؤبدا بالعياء وبِركلات متتابعة، تسابق المغاص .للخروج. انزوت في أحد مداخل العمارات القديمة، منكمشة تحت السلالم . تصورته بجانبها، يتكحل بعين وليده..ويقدم لها هدية (شرعيته). تصورته لحظة توادده معها، وهو يقسم بأغلظ الإيمان احتواءها والشمس والقمر شاهدان.، فانكتبت فيه لحظة أمان وناغمته بصدق، وهي تقدم له باكورة الصبا، والأبيض والأسود عراء، بملامح الشيطان... وجدت نفسها وحيدة ، بعد موت خالتها...قيل لها بأن والدها مات في حرب التحرير، وأمها خرجت ذات صباح ، ولم تعد. لم يتجاوز عمرها الثلاث سنوات حين احتوتها خالتها،و الثمانية عشر حين فصلتها (دار الأيتام)... اشتد الألم ، وتحسسته يهبط . وضعت منديلا في فمها ، تحاول أن تخرس آهاتها وتخرسه معها إلى الأبد وفي رأسها تتناغل إمكانيات كثيرة للتخلص منه... حين... فتح باب في الطرف الآخر من الدهليز ، وخرجت منه نقاط ضوء، رسمت ملامحها المذعورة للمكلفة بالعمارة... ربتت على كتفيها (الخالة طامو) وأدخلتها بيتها..وهي تلف كمشة من لحم مابين يديها..في انتظار صباح آخر..