لقد أتم الله على الأمة الإسلامية بأن جعلها أمة واحدة أمة لا تعرف التفرق، ولا تعرف التشاحن، ولا تعرف التباغض، أو هكذا أراد الله لها أن تكون، في قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون )، وقوله ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ). ولذلك أتت فرائض الإسلام كلها لتؤكد هذه الوحدة، بل وتحض عليها، وليس ما أصاب المسلمين من ضعف ووهن إلا بسبب تفرقهم، فطمع فيهم أعداؤهم. وما فريضة الحج إلا واحدة من فرائض خمس يلزم المسلمون بأدائها تحقيقاً لمبدأ الشورى والمساواة والتعاون في أوساطهم، إنها فريضة ملزمة لكل قادر سواء كان ذكراً أم أنثى، يبرز فيها جلياً روح الدين الإسلامي، في أسمى صوره. تلك الروح المتمثلة في وحدة الأمة الإسلامية، والتي بها فضلت وميزت على سائر العباد كما في قوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله). إن المسلمين الذين يأتون إلى بيت الله الحرام، ويؤمونه من كل فج عميق، رغم اختلاف ألسنتهم، وبعد ديارهم، إنهم قد تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم ليلتقوا في مكان واحد، إنما فعلوا ذلك بدافع الإيمان الذي وحد مشاعرهم، ومزج بين عواطفهم، وألغى الفوارق التي بينهم، بصرف النظر عن مصدرها ولونها، لقد أصبح الجميع يلبون تلبية واحدة، ويطوفون حول البيت الحرام بمشاعر الأخوة والمحبة، فليس هناك معيار للتفاضل بينهم غير التقوى والعمل الصالح، امتثالاً لقول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ). والحج بمناسكه وشعائره وآدابه يرفع المؤمن درجة في سلم الترقي نحو الملأ الأعلى، فقد جاء في الأثر أن الحاج يرجع من حجه وكأنه طفل وليد، طاهر السريرة، ذو صفحة نقية، بيضاء، لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما ذلك إلا لأن الحج رحلة تطهير روحانية، وهو مناجاة لرب العباد، وهو أيضاً رحلة تآلف وتناصر وتعاون بين المسلمين على البر والمعروف. إنه فريضة جهاد وتطهير، تخلص النفس من نزعات الشيطان وتقوي فيها معاني السمو الروحي فتحيا فوق المادة، ولا تبقى أسيرة لها، فتضل الطريق، طريق النجاة في الدنيا، وطريق النجاح في الآخرة. ليس غرض الحج - كما يفهم البعض خطأ - هو الحصول على لقب حاج أو الحصول على مغانم مادية، ولكن الغرض منه هو التصالح مع الله، وتجديد العهد معه على استئناف حياة جديدة مستقرة، والحج إلى جانب هذا وذاك يرشد المسلمين إلى الوحدة في أوسع معانيها، وأكرم غاياتها، إنه بمناسكه يحقق معنى الوحدة الإسلامية فيه، ففيه يتساوى كل الناس، وتمحى الفروق بين الأجناس، وإذا كانت الألوان قد تفرق بين وجوه بعض الناس في الحياة، فإن الوجوه تتساوى أمام الرحمن في الحج، وإذا كانت التياب في سائر الأيام قد ترفع بعض الناس إلى مكانه أعلى من مكانتهم الاجتماعية، فإن لباس الحج قد سوت بين المؤمنين، فالحج جامعة تجمع القلوب، وتوحد مشاعر العباد. ففيه يختفي كل مظهر من مظاهر الإقليمية، وفيه أيضاً تختفي كل مظاهر الاختلالات المادية. إن الحج أيها الإخوة هو الذي يذكر المسلمين دائماً بأنهم وحدة واحدة، لهم ولاية واحدة، فهم يلتقون عند المشعر الحرام ويصعدون إلى عرفات، ويجتمعون في تلك البقاع الطاهرة للتعارف والتآلف وتبادل الأفكار، فيه تتوحد كلمتهم، ويجتمعون لتظل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين ظلموا هي السفلى. في الحج يظهر المسلمون كالجسد الواحد يشد بعضهم بعضا لكي يحققوا لأنفسهم الحياة العزيزة، ولرسوله وللمؤمنين الرفعة. والحج جهاد، لا لأنه مقاومة لشهوة النفس فحسب، بل لأنه كذلك يحقق للمسلمين الحياة العزيزة ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ولأنه أيضاً يحقق الوحدة الإسلامية ويحميها ويدفع عنها الأذى. وذلك هو مقصد الجهاد في الإسلام إذ ليس الغرض من الجهاد في الإسلام السيطرة والتحكم وانتهاب خيرات الشعوب، ولكنه لحماية حقوق الإنسان ونصرة المظلومين، واستعادة حقوقهم. فما أمس حاجة المسلمين في عصرنا إلى وحدة تحمي حقوقهم، وترد عنهم الطامعين، فلا سبيل أمامهم لاستعادة كرامتهم المفقودة غير الوحدة، وحدة لا تعرف التفرق والاختلاف. وما أحوجنا - نحن اليمنيين - إلى أن نستلهم من الحج وحدة الأمة، ونعمل جاهدين على تعزيز وحدتنا الوطنية، ونبذ الفرقة وإرساء دعائم الأخوة والمحبة، ونسعى لتخليص نفوسنا من نوازع الفرقة والشتات، وكل ما من شأنه زرع الفتنة في المجتمع، ولنتعاون جميعاً على استلهام أهم مقاصد الحج، وهو وحدة الأمة، ولم شمل المسلمين، لا فرقتهم. * خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان