صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من التشدد والانغلاق .. إلى التطرف والتخلف
نشر في 14 أكتوبر يوم 31 - 01 - 2013

بعد عشرسنوات من هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1914م - 1918م، وإلغاء الخلافة الإسلامية رسمياً ، ظهرت جماعة « الإخوان المسلمين » في محاولة حركية لسد الفراغ الناشئ عن غياب دولة الخلافة في العالم الإسلامي ، وتطويق الأفكار القومية والاشتراكية والليبرالية التي تزامن انتشارها في العالم العربي والإسلامي مع سقوط الخلافة . وقد تقاطعت مع أهداف الجماعة الوليدة مصالح متناقضة لقوى داخلية وخارجية تركت ظلالا ثقيلة على مسيرة جماعة «الإخوان» وتحالفاتها العربية والدولية وخطابها السياسي والآيديولوجي !!
حرصت هذه الحركة على أن تزاوج بين الأفكار السلفية المعتدلة والمعاصرة للشيخ رشيد رضا والمخرجات السلفية للبيئات البدوية التي صاغت في وقت لاحق الجهاز المفاهيمي لفكر وثقافة ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب الحنبلي ومحمد عبد الوهاب ، وجنحت إلى تكفير كافة المذاهب غير السنية كالجعفرية والزيدية والاسماعيلية والأباضية , ولم تستثن من ذلك بعض الفرق السنية كالأشعرية والصوفية .
كان حرص جماعة «الإخوان المسلمين» واضحاً على ربط هذه المخرجات السلفية بأكبر مرجعية سلفية متشددة في التاريخ الاسلامي ، وهي الإمام أبو حامد الغزالي ، ما أدّى إلى تمهيد التربة لولادة سلفيات أخرى مدمّرة , تمثلت بدايتها الأولى في سلفية سيد قطب المتطرفة ، حيث يصف الكثيرمن المفكرين كتابه التكفيري الشهير «معالم في الطريق» الصادر عام 1964م، ب (مانفيستو) الإسلام السياسي المتطرف ، الذي أنجب في أواخر القرن العشرين حركات جهادية مقاتلة ومنظومات فكرية متطرفة في عدد من البلدان العربية والاسلامية على طريق إقامة دولة الخلافة!! .
وقد اندمج معظم هذه الحركات في إطار «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى» ، وتلاقحت افكارها المتطرفة في خلاصة البيان الذي صدر باسم هذه الجبهة في فبراير 1998م ، معلناً انطلاق شرارة الحرب الدينية و«بدء المعركة الفاصلة بين فسطاط « الاسلام » الذي تمثله هذه الجماعات، و« فسطاط الكفر» الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها والموالية لها , بحسب ما جاء في ذلك البيان.
شكلت الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى «جهازاً خاصاً » مقاتلاً أطلقت عليه اسم «القاعدة» وأعلن هذا «الجهاز الخاص» مسؤوليته عن عديد من التفجيرات والاعتدءات التي استهدفت مصالح أميركية وغربية ، وابرزها تدمير البارجة الأميركية (كول) في ميناء عدن عام 2000 وتفجيرات 11 سبمتبر 2001م الإرهابية في واشنطن ونيويورك ، وتدمير ناقلة النفط الفرنسية (ليمبرج) في ميناء الضبة النفطي بمدينة المكلا عام 2002 .
وبحسب فكر هذه الجماعات (لا يجوز أن يبقى شبر على الأرض لا يحكمه الإسلام وشريعته ، ولا يجوز أن يبقى إنسان على الأرض خارج دين الاسلام .. والله ما ارسل نبيه عليه الصلاة والسلام ليدعو ويبقى في مكانه , بل قال له ولأتباعه: - «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله » أي قاتلوهم حتى يكون الاسلام حاكماً علي الأرض بمن فيها وما عليها) بحسب ما جاء في كتاب (فرسان تحت بيارق النبي) لأيمن الظواهري زعيم تنظيم ( القاعدة ) وكرره في شريط صوتي الشيخ عبدالله صعتر القيادي البارز في حزب التجمع اليمني للاصلاح !!
يمكن ملاحظة جذور هذة الافكار في كتاب «معالم في الطريق» الذي قال فيه سيد قطب على نحو قاطع: «إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية ، والإسلام لايقبل انصاف الحلول... فإما إسلام وإما جاهلية ، وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه الآخر جاهلية» .
ويحدد سيد قطب بوضوح ودقة الطريق الذي يجب على المسلمين سلوكه من أجل أن يتسلم الإسلام قيادة العالم بمن فيه وما عليه حيث يقول : «إنها لسذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير النوع الإنساني في كل أرض ، ثم تقف أمام العقبات في وجه هذه الدعوة تجاهدها باللسان والبيان . فلا بد من إزالة هذه العقبات أولاً بالقوة» ويرى سيد قطب أن الهدف الرئيسي للإسلام هو إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر ، مشيراً إلى الطبيعة الهجومية للإسلام، ونافياً عنه في الوقت نفسه طابعه الدفاعي .
تجد النتائج والخلاصات التي وصل إليها سيد قطب، مقوماتها في ذلك الحجم الهائل من العداء لدور العقل في الحضارة الإسلامية .. فقد سار سيد قطب على خطى أبي حامد الغزالي الذي يطلق عليه السلفيون صفة «الإمام المجدد حجة الإسلام» و يحظى بتوقير وتكريم شديدين في أوساط مختلف التيارات السلفية المتشددة والمتطرفة والمعتدلة على حد سواء ، ويعد القاسم المشترك فيما بينها بوصفه أشهر مرجع معادٍ للفلسفة والعقل النقدي في الموروث الفقهي الإسلامي .
ولعل ذلك هو ما دفع بعض المفكرين العرب إلى الاعتراف بأن الفقهاء والمفكرين المسلمين سبقوا هنتغتون في الترويج لموضوعة صدام الحضارات ، « فليس قليلاً ما كتبه أبو الأعلى المودودي وأبوالحسن الندوي وسيد قطب وأخرون ممن «لم يجدوا في العلاقة بين الحضارة الإسلامية وغيرها من حاكم سوى التناقض والصدام , حيث تشكل كتابات هؤلاء، المادة الثقافية الأساسية التي تغذّى منها جيلان من ( الصحويين) ، جيل عمر عبد الرحمن وعبود الزمر وسعيد حوا وعبد السلام فرج ، وجيل تنظيم (القاعدة) ومن ذهب مذهبهم في هذه الأفكار» .
والحال أن الفقه المعادي لدور العقل والفلسفة الذي صاغته وتمسكت به كافة المرجعيات السلفية باختلاف طبعاتها المتشددة والمتطرفة والمعتدلة ، يقود بشكل تلقائي إلى معاداة الثقافات والحضارات الأخرى التي يلعب النشاط العقلي دوراً حاسماً في الانفتاح عليها وتمهيد التربة للتفاعل فيما بينها .
ولذلك ليس غريباً أن يرتبط العداء لدور العقل النقدي وللفلسفة وعلم المنطق والعلوم الطبيعية وغيرها من المناشط العقلية التي انتعشت في مرحلة إزدهار الحضارة العربية الإسلامية وعصرها الذهبي ، ليس غريباً أن يرتبط هذا العداء، بمعاداة الثقافات الأخرى والخوف من التلاقح الثقافي معها بدعوى الدفاع عن الهوية والتمسك بالخصوصية ، وهو ما وصفه الدكتور أحمد كمال ابوالمجد بأنه دعوة إلى «الانتحار الحضاري».
لاريب في أن ذلك يساعدنا على تفسير الدعوة إلى التمسك بنمط حياة الأسلاف وثقافتهم والتي تجد تعبيرها في قول سيد قطب : «إ ن الدعوة الإسلامية خرّجت جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعها هو جيل الصحابة . وكان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن وحده ، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد . وعندما صُبّت في هذا النبع فلسفةُ الإغريق ومنطقهم ، وأساطيرُ الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات في البلدان التي فتحها المسلمون ، اختلطت الينابيع ، واختلط هذا كله بتفسير القرآن ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه ، فلم يتكرر ذلك الجيل . وكان ذلك الاختلاط عاملاً أساسياً من عوامل ذلك الاختلاف البيّن بين الأجيال وذلك الجيل المميّز الفريد من السلف الصالح».
منذ أن تحوّلت الدولة الإسلامية إلى مُلك سُلطاني عضوض ، تعرّض مشروع الإسلام التغييري الثوري للتشويش والتلبيس والتعطيل، إذْ أصبح الأمن الداخلي المطلق هاجساً رئيسياً للنخب الحاكمة التي لجأت إلى السيف والذهب - الترهيب والترغيب - لشراء السلام الداخلي وانتزاع الشرعية .. فكانت النتيجة نكوص وتراجع عملية التغيير لصالح التعايش مع مصالح واحتياجات البنى التقليدية السائدة في المجتمع وإعادة إنتاج ثقافتها وقيمها الجاهلية التي جاء الاسلام لتغييرها .
وبالنظر إلى الدور البارز الذي لعبه الفقه المتشدد ورموزه الفكرية في مواجهة النشاط العقلي وتكفير الفلاسفة والمشتغلين بالعلوم الطبيعية ، يتوجب التوقف عند أفكار «الإمام المجدّد حجة الإسلام أبي حامد الغزالي » المتشددة والمعادية للعقل ، وهي الأفكار التي احتلت مكاناً محورياً في الفقه السلفي المتشدد ، ولعبت دوراً مؤثراً في تشكيل ثقافتنا لقرون طويلة ، فيما أدّى توقيرها والتمسك بها، وإضفاء القداسة عليها والإصرار على إعادة إنتاجها , إلى دخول ثقافتنا العربية والإسلامية نفقاً مظلماً أسفر عن مأزقها الراهن في هذه الحقبة من تطور عصرنا وحضارته الحديثة .
تعود صفات القداسة التي أضفيت على أفكار الغزالي إلى الاعتقاد الديني بالحديث الذي يُنسب إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها». وكان لهذا الاعتقاد أثر كبير في أن يتحوّل الإمام أبو حامد الغزالي من العزلة إلى معترك الدعوة والعمل في بداية المائة الخامسة الهجرية ، حيث تملّك الغزالي شعورٌ بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره على نحو ما جاء في كتابه «المنقذ من الظلال » حيث قال : « فشاورت في ذلك جماعةً من أرباب القلوب والمشاهدات فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية ، وانضاف إلى ذلك منامات الصالحين كثيرةً متواترةً تشهد بأن هذه الحركة مبدأ ُخيرٍ ورشدٍ قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة . فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات . وقد وعد الله سبحانه باحياء دينه على رأس كل مائة ، ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم» .
يبدأ الغزالي دوره الملتبس في «إحياء الدين وتجديده» في المئة الخامسة الهجرية بهجوم على العلوم الطبيعية التي شهدت انتشاراً واسعاً في العصر العباسي الذهبي الأول ، وأسهمت بقسط كبير في إزدهار الحضارة العربية إلى جانب المناشط الواسعة للحركة العقلية التي تميز بها ذلك العصر .
ينفي الغزالي أهمية العلوم الطبيعة ، ويبالغ في التقليل من قيمتها ، ويتشدّد في تحقيرها وتكفير المشتغلين بها قياساً إلى موقفه الداعم لعلم الفقه . ويصل عداء الغزالي للعلوم الطبيعية إلى حد أنه نفى أي فائدة منها لحياة الإنسان ومعيشته وتطوره الحضاري ، حيث يقول في كتابه الشهير «جواهر القرآن» بعد أن استغرق وأطال في شرح أهمية علم الفقه ومكانة أهل العلم في هذا المجال: ((إنما أشرنا إلى العلوم الدينية - يقصد الفقه - التي لا بد من وجودها ، ولا يكون العالِم إلا بها، حتى يتيسّر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه . أما هذه العلوم الدنيوية «يقصد علوم الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات ..الخ» فلا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد ، فلذلك لم نذكرها)) .
وكما هو الحال في هذ الكتاب، فقد هاجم أبو حامد الغزالي في بقية كتبه الفلاسفة والعلماء الذين اشتغلوا بالبحوث العلمية ، وألفّوا وترجموا فيها ، ورفض الاعتراف بالمنهج العلمي الذي يقرر أن الفلسفة تبحث عن الحقيقة وتقدمها إلى العلم فيما بعد، وهو ما أكده مسار تطور العلوم المعاصرة قبل وبعد الثورة الصناعية الكبرى في العصر الحديث .. وتمادى الغزالي في تحقير الفلسفة ووصفها ب «البهتان» فيما وصف عمل ونشاط العلماء في مجال الفلسفة ب «التهافت» على البهتان بحسب ما جاء في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة» الذي رد عليه ابن رشد بكتابه الشهير أيضاً «تهافت التهافت». أما أخطر الأفكار التجديدية التي يزعم الغزالي وأضرابه أنه جدد بها الدين , فهي تلك التي عارض فيها بقوة ، أن يكون المشتغلون والباحثون في علوم الطب والفلك والتشريح والكيمياء والرياضيات في عداد العلماء بذريعة أنهم (يشتغلون في علوم لا نفع منها في معاش الناس) على نحو ما أورده في كتابيه الشهيرين «جواهر القرآن» و «إحياء علوم الدين» !! ‍‍‍‍‍‍‍.
على درب الغزالي سارت ثقافتنا وأصبح الفقهاء والمتكلمون في مجال النقل عن النصوص الفقهيه القديمة هم وحدهم (العلماء ) ، فيما أصبح تعريف العلم والعلماء مقصوراً على الفقه والفقهاء ورجال الدين . وبعد كتابه «جواهر القرآن» جاء كتاب «إحياء علوم الدين» الذي اشتهر به الغزالي ليحوي مجموعة من الأفكار التي يستطيع الباحث فيها تفسير أسباب تراجع الحضارة العربية الإسلامية ، ودخولها منذ المائة الخامسة الهجرية ، مرحلة جديدة إتسمت بأفول ذلك الوهج والبريق اللذين تميزت بهما فترة صعود هذه الحضارة في العصر العباسي الأول .
صحيح أن أفكار الغزالي المتشددة ضد الفلسفة والعلوم الطبيعية حاولت التماهي مع العقيدة الدينية ، إلا أنها لم تتمكن من احتكار تمثيلها قطعاً وحصراً ، ولم تنجح أيضاً في قطع الطريق أمام محاولات أخرى للإحياء الإسلامي الصحيح لهذه العقيدة في أوقات متفرقة . أما قدرة أفكار الغزالي على البقاء لفترة طويلة ، فلا يعود سببها إلى قوتها أو إلى أنها تمثل تجديداً للدين والعياذ بالله ، بحسب ما يزعم به غلاة المتشددين و المتطرفين الأصوليين .
ومن نافل القول أن العرب عندما ترجموا افلاطون وارسطو وسقراط وفيثاغورث خرج من بينهم الفارابي وابن سيناء والرازي وإبن رشد وابن خلدون والخوارزمي وابن الهيثم.. وعندما ترجم الأوربيون ابن سينا والرازي وابن رشد والخوارزمي وآخرين من الذين نفى عنهم الغزالي صفة العلماء، ومعهم ارسطو وفيثاغورث والكثير من العلماء والفلاسفة الأغريق الذين كان للفلسفة والعلوم الطبيعية العربية فضل تعريف أوروبا بهم ، خرج من بينهم ديكارت وكانط واينيشتاين ووليم جلبرت وهيغل وفولتير وتوماس أديسون وجراهام بل وألفريد نوبل وغيرهم من قمم النهضة العلمية والفكرية الأوروبية في العصر الحديث.
بالتوازي مع هذا الإتجاه استوعب الرعيل الأول من طلائع الفكر العربي المعاصر صدمة الحداثة على أثر إحتكاكهم بالحضارة الغربية في عصر الاستعمار أواخر القرن التاسع عشر ، وشرع بعضهم إلى ترجمة ديكارت وهيغل وكانط وفولتير، فخرج من بينهم رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وأحمد أمين وطه حسين و قاسم أمين وغيرهم من روّاد النهضة الفكرية التي انطفأت في الثلاثينات ، على أثر ظهور جماعة «الإخوان المسلمين » وانبعاث الفكر السلفي المتشدد على يدها ، كرد فعل لإلغاء الخلافة العثمانية رسمياً في تركيا بعد قيام ثورة مصطفى كمال اتاتورك التي أنهت نظام الخلافة وأقامت على أنقاضه أول نظام جمهوري في العالم الاسلامي.
كان النشاط العقلي يعد مظهراً للمعارضة ، إذْ يؤدي التفكير العقلي في نهاية المطاف إلى نقد البنى الداخلية للأفكار والظواهر، وإقتراح وإبداع حلول جديدة لمشاكل المجتمع الإسلامي ، ولذلك تعرّض العقل للعدوان عليه ، وقام فقه التشدّد بدور وظيفي خطير في العدوان على العقل .
من المفارقات الخطيرة أن الفقهاء المسلمين تحوّلوا إلى رجال دين على غرار الإكليروس المسيحي ، ونهضوا بدور هام في تأطير ذلك التعايش لصالح الطرفين (سلطة الدولة والبنى التقليدية في المجتمع) ، بعد دخولهم كشريك وسيط ضمن مفاعيل هذه العلاقة السلطوية السياسية .
يبقى القول إن انتعاش الاتجاهات المحافظة والمتشددة في التاريخ الإسلامي يعود في تقديرنا إلى الظروف التي مر بها المسلمون في حقبة الغزو المغولي وحقبة الغزو الصليبي ، وصولاً إلى السيطرة العثمانية التي سبقتها سيطرة السلاجقة المرابطين في نيسابور حيث اعترف الغزالي بأنه ذهب إليها وعاد منها برسالة «تجديد واحياء الدين» في المائة الخامسة من عصره، وما رافق ذلك «التجديد والإحياء» من هدم للبنى الثقافية الحضرية ، وتصفية لكنوز المعرفة العلمية ، وتراجُع مكانة المدن والبيئات الحضرية ، مقابل هيمنة ونفوذ البيئات البدوية والثقافة القبلية، وصولاً إلى الانقطاع التام عن إبداع الحضارة والسقوط المريع في هاوية التخلف والانغلاق!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.