لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    لحظة وصول الرئيس رشاد العليمي إلى محافظة مارب.. شاهد الفيديو    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    الإطاحة بوافد وثلاثة سعوديين وبحوزتهم 200 مليون ريال.. كيف اكتسبوها؟    - عاجل امر قهري لاحضار تاجر المبيدات المثير للراي العام دغسان غدا لمحكمة الاموال بصنعاء واغلاق شركته ومحالاته في حال لم يحضر    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التطرف والإرهاب من «الجهاز الخاص» إلى «القاعدة»
نشر في لحج نيوز يوم 24 - 08 - 2013

عندما ترجم العرب افلاطون وارسطو وسقراط خرج من بينهم الفارابي وإبن سيناء وإبن رشد وإبن خلدون .. وعندما ترجم الأوربيون إبن سيناء والرازي وإبن رشد ومعهم ارسطو وفيثاغورث وغيرهم من العلماء والفلاسفة الأغريق الذين كان للفلسفة العربية فضل تعريف أوروبا بهم ، خرج من بينهم ديكارت وكانط واينيشتاين وهيغل وفوليتر وغيرهم من قمم النهضة العلمية و الفكرية الأوربية في العصر الحديث .
بالتوازي مع هذا الإتجاه استوعب الرعيل الأول من طلائع الفكر العربي المعاصر صدمة الحداثة على أثر إحتكاكهم بالحضارة الغربية في عصر الإستعمار أواخر القرن التاسع عشر ، وشرع بعضهم إلى ترجمة ديكارت وهيغل وكانط وفولتير ، فخرج من بينهم رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وأحمد أمين وطه حسين و قاسم أمين وغيرهم من روّاد النهضة ال فكرية التي انطفأت في الثلاثينات ، على أثر ظهور جماعة " الأخوان المسلمين " وانبعاث الفكر السلفي المتشدد على يدها ، كرد فعل لإلغاء الخلافة العثمانية رسمياً في تركيا بعد قيام ثورة مصطفى كمال اتاتورك التي أنهت نظام الخلافة وأقامت على أنقاضه أول نظام جمهوري في العالم الإسلامي .
بعد عشرسنوات من هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1914م – 1918م ، وإلغاء الخلافة الإسلامية رسمياً ، ظهرت جماعة " الأخوان المسلمين " في محاولة حركية لسد الفراغ الناشئ عن غياب دولة الخلافة في العالم الإسلامي ، وتطويق الأفكار القومية والاشتراكية والليبرالية التي تزامن انتشارها في العالم العربي والإسلامي مع سقوط الخلافة . وقد تقاطعت مع أهداف الجماعة الوليدة مصالح متناقضة لقوى داخلية وخارجية تركت ظلالا ثقيلة على مسيرة جماعة " الإخوان " وتحالفاتها العربية والدولية وخطابها السياسي والآيديولوجي !!
حرصت هذه الحركة على أن تزاوج بين الأفكار السلفية المعتدلة والمعاصرة للشيخ رشيد رضا والمخرجات السلفية للبيئات البدوية التي صاغت في وقت لاحق الجهاز المفاهيمي لفكر وثقافة ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب الحنبلي ومحمد عبد الوهاب ، وجنحت إلى تكفير كافة المذاهب غير السنية كالجعفرية والزيدية والاسماعيلية والأباضية , ولم تستثن من ذلك بعض الفرق السنية كالأشعرية والصوفية .
كان حرص جماعة " الأخوان المسلمين " واضحاً على ربط هذه المخرجات السلفية بأكبر مرجعية سلفية متشددة في التاريخ الإسلامي ، وهي الأمام أبو حامد الغزالي ، ما أدّى إلى تمهيد التربة لولادة سلفيات أخرى مدمّرة , تمثلت بدايتها الأولى في سلفية سيد قطب المتطرفة ، حيث يصف الكثيرمن المفكرين كتابه التكفيري الشهير " معالم في الطريق " الصادر عام 1964م ، ب (مانفيستو) الإسلام السياسي المتطرف ، الذي أنجب في أواخر القرن العشرين حركات جهادية مقاتلة ومنظومات فكرية متطرفة في عدد من البلدان العربية والإسلامية على طريق إقامة دولة الخلافة !! .
وقد اندمج معظم هذه الحركات في إطار" الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى"، وتلاقحت أفكارها المتطرفة في خلاصة البيان الذي صدر باسم هذه الجبهة في فبراير 1998م ، معلناً إنطلاق شرارة الحرب الدينية و" بدء المعركة الفاصلة بين فسطاط " الإسلام " الذي تمثله هذه الجماعات ، و" فسطاط الكفر" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها والموالية لها , بحسب ما جاء في ذلك البيان.
شكلت الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى " جهازاً خاصاً " مقاتلاً أطلقت عليه اسم " ا لقاعدة " وأعلن هذا " الجهاز الخاص " مسؤوليته عن عديد من التفجيرات والإعتدءات التي استهدفت مصالح أميركية وغربية ، وابرزها تدمير البارجة الأميركية ( كول ) في ميناء عدن عام 2000 وتفجيرات 11 سبمتبر 2001م الإرهابية في واشنطن ونيويورك ، وتدمير ناقلة النفط الفرنسية ( ليمبرج ) في ميناء المكلا عام 2002 .
وبحسب فكر هذه الجماعات " لا يجوز أن يبقى شبر على الأرض لا يحكمه الإسلام وشريعته ، ولا يجوز ان يبقى انسان علي الأرض خارج دين الاسلام .. والله ما ارسل نبيه عليه الصلاة والسلام ليدعو ويبقى في مكانه , بل قال له ولأتباعة : ( وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) أي قاتلوهم حتى يكون الاسلام حاكما علي الأرض بمن فيها وما عليها " على نحو ما جاء في شريط صوتي للشيخ عبدالله صعتر أحد شيوخ أحزاب (( اللقاء المشترك )).
يمكن ملاحظة جذور هذة الافكار في كتاب " معالم في الطريق " الذي قال فيه سيد قطب علي نحو قاطع : " ان العالم يعيش اليوم كله في جاهلية ، والإسلام لايقبل انصاف الحلول ... فاما اسلام واما جاهلية ، وليس هنالك وضع اخر نصفة إسلام ونصف الآخر جاهلية " .
ويحدد سيد قطب بوضوح ودقة الطريق الذي يجب على المسلمين سلوكه من اجل أن يتسلم الإسلام قيادة العالم بمن فيه وما عليه حيث يقول : " إنها لسذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير النوع الإنساني في كل أرض ، ثم تقف أمام العقبات في وجه هذه الدعوة تجاهدها باللسان والبيان . فلا بد من إزالة هذه العقبات أولاً بالقوة " ويرى سيد قطب أن الهدف الرئيسي للإسلام هو إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر ، مشيراً إلى الطبيعة الهجومية للإسلام ، ونافياً عنه في الوقت نفسه طابعه الدفاعي .
تجد النتائج والخلاصات التي وصل إليها سيد قطب ، مقوماتها في ذلك الحجم الهائل من العداء لدور العقل في الحضارة الإسلامية .. فقد سار سيد قطب على خطى آبي حامد الغزالي الذي يطلق عليه السلفيون صفة " الإمام المجدد حجة الإسلام " و يحظى بتوقير وتكريم شديدين في أوساط مختلف التيارات السلفية المتشددة والمتطرفة والمعتدلة على حد سواء ، ويعد القاسم المشترك فيما بينها بوصفه أشهر مرجع معادٍ للفلسفة والعقل النقدي في الموروث الفقهي الإسلامي .
ولعل ذلك هو ما دفع بعض المفكرين العرب إلى الإعتراف بأن الفقهاء والمفكرين المسلمين سبقوا هنتغتون في الترويج لموضوعة صدام الحضارات ، " فليس قليلاً ما كتبه أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب وأخرون ممن " لم يجدوا في العلاقة بين الحضارة الإسلامية وغيرها من حاكم سوى التناقض والصدام , حيث تشكل كتابات هؤلاء، المادة الثقافية الأساسية التي تغذّى منها جيلان من ( الصحويين ) ، جيل عمر عبد الرحمن وعبود الزمر وسعيد حوا وعبد السلام فرج ، وجيل تنظيم ( القاعدة ) ومن ذهب مذهبهم في هذه الأفكار" .
والحال أن الفقه المعادي لدور العقل والفلسفة الذي صاغته وتمسكت به كافة المرجعيات السلفية باختلاف طبعاتها المتشددة والمتطرفة والمعتدلة ، يقود بشكل تلقائي إلى معاداة الثقافات والحضارات الأخرى التي يلعب النشاط العقلي دوراً حاسماً في الإنفتاح عليها وتمهيد التربة للتفاعل فيما بينها .
ولذلك ليس غريباً أن يرتبط العداء لدور العقل النقدي وللفلسفة وعلم المنطق والعلوم الطبيعية وغيرها من المناشط العقلية التي انتعشت في مرحلة إزدهار الحضارة العربية الإسلامية وعصرها الذهبي ، ليس غريباً أن يرتبط هذا العداء , بمعاداة الثقافات الأخرى والخوف من التلاقح الثقافي معها بدعوى الدفاع عن الهوية والتمسك بالخصوصية ، وهو ما وصفه الدكتور أحمد كمال ابوالمجد بأنه دعوة إلى " الإنتحار الحضاري " .
لاريب في أن ذلك يساعدنا على تفسير الدعوة إلى التمسك بنمط حياة الأسلاف وثقافتهم والتي تجد تعبيرها في قول سيد قطب : "
إن الدعوة الإسلامية خرّجت جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعها هو جيل الصحابة . وكان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن وحده ، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد . وعندما صُبّت في هذا النبع فلسفةُ الإغريق ومنطقهم ، وأساطيرُ الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات في البلدان التي فتحها المسلمون ، اختلطت الينابيع ، واختلط هذا كله بتفسير القرآن ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه ، فلم يتكرر ذلك الجيل . وكان ذلك الإختلاط عاملاً أساسياً من عوامل ذلك الاختلاف البيّن بين الأجيال وذلك الجيل المميّز الفريد من السلف الصالح "منذ أن تحوّلت الدولة الإسلامية إلى مُلك سُلطاني عضوض ، تعرّض مشروع الإسلام التغييري الثوري للتشويش والتلبيس والتعطيل ، إذْ أصبح الأمن الداخلي المطلق هاجساً رئيسياً للنخب الحاكمة التي لجأت إلى السيف والذهب – الترهيب والترغيب – لشراء السلام الداخلي وانتزاع الشرعية .. فكانت النتيجة نكوص وتراجع عملية التغيير لصالح التعايش مع مصالح واحتياجات البنى التقليدية السائدة في المجتمع وإعادة إنتاج ثقافتها وقيمها الجاهلية التي جاء الاسلام لتغييرها.
من المفارقات الخطيرة أن الفقهاء المسلمين تحوّلوا إلى رجال دين على غرار الإكليروس المسيحي ، ونهضوا بدور هام في تأطير ذلك التعايش لصالح الطرفين (السلطة والبنى التقليدية في المجتمع) ، بعد دخولهم كشريك وسيط ضمن مفاعيل هذه العلاقة .
كان النشاط العقلي يعد مظهراً للمعارضة ، إذْ يؤدي التفكير العقلي في نهاية المطاف إلى نقد البنى الداخلية للأفكار والظواهر, وإقتراح وإبداع حلول جديدة لمشاكل المجتمع الإسلامي ، ولذلك تعرّض العقل للعدوان عليه ، وقام فقه التشدّد بدور وظيفي خطير في العدوان على العقل .
وبالنظر إلى الدور البارز الذي لعبه الفقه المتشدد ورموزه الفكرية في مواجهة النشاط العقلي وتكفير الفلاسفة والمشتغلين بالعلوم الطبيعية ، يتوجب التوقف عند أفكار " الإمام المجدّد حجة الإسلام أبي حامد الغزالي " المتشددة والمعادية للعقل ، وهي الأفكار التي احتلت مكاناً محورياً في الفقه السلفي المتشدد ، ولعبت دوراً مؤثراً في تشكيل ثقافتنا لقرون طويلة ، فيما أدّى توقيرها والتمسك بها ، وإضفاء القداسة عليها والإصرار على إعادة إنتاجها , إلى دخول ثقافتنا العربية والإسلامية نفقاً مظلماً أسفر عن مأزقها الراهن في هذه الحقبة من تطور عصرنا وحضارته الحديثة .
تعود صفات القداسة التي أضفيت على أفكار الغزالي إلى الإعتقاد الديني بالحديث الذي يُنسب إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها " .
وكان لهذا الإعتقاد أثر كبير في أن يتحوّل الإمام أبو حامد الغزالي من العزلة إلى معترك الدعوة والعمل في بداية المائة الخامسة الهجرية ، حيث تملّك الغزالي شعورٌ بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره على نحو ما جاء في كتابه " المنقذ من الظلال " حيث قال : " فشاورت في ذلك جماعةً من أرباب القلوب والمشاهدات فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية ، وانضاف إلى ذلك مناماتُ الصالحين كثيرةً متواترةً تشهد بأن هذه الحركة مبدأ ُخيرٍ ورشدٍ قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة . فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات . وقد وعد الله سبحانه باحياء دينه على رأس كل مائة ، ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم " .
يبدأ الغزالي دوره الملتبس في " احياء الدين وتجديده " في المئة الخامسة الهجرية بهجوم على العلوم الطبيعية التي شهدت إنتشاراً واسعاً في العصر العباسي الذهبي الأول ، وأسهمت بقسط كبير في إزدهار الحضارة العربية إلى جانب المناشط الواسعة للحركة العقلية التي تميز بها ذلك العصر .
ينفي الغزالي أهمية العلوم الطبيعة ، ويبالغ في التقليل من قيمتها ، ويتشدّد في تحقيرها وتكفير المشتغلين بها قياساً إلى موقفه الداعم لعلم الفقه . ويصل عداء الغزالي للعلوم الطبيعية إلى حد أنه نفى أي فائدة منها لحياة الانسان ومعيشته وتطوره الحضاري ، حيث يقول في كتابه الشهير " جواهر القرآن " بعد أن استغرق وأطال في شرح أهمية علم الفقه ومكانة أهل العلم في هذا المجال : " إنما أشرنا إلى العلوم الدينية – يقصد الفقه – التي لا بد من وجودها ، ولا يكون العالِم إلا بها ، حتى يتيسّر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه . أما هذه العلوم الدنيوية (يقصد الطبيعية) فلا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد ، فلذلك لم نذكرها " .
وكما هو الحال في هذ الكتاب ، فقد هاجم أبو حامد الغزالي في بقية كتبه الفلاسفة والعلماء الذين اشتغلوا بالبحوث العلمية ، وألفّوا وترجموا فيها ، ورفض الإعتراف بالمنهج العلمي الذي يقرر أن الفلسفة تبحث عن الحقيقة وتقدمها إلى العلم فيما بعد ، وهو ما أكده مسار تطور العلوم المعاصرة قبل وبعد الثورة الصناعية الكبرى في العصر الحديث .. وتمادى الغزالي في تحقير الفلسفة ووصفها ب " البهتان " فيما وصف عمل ونشاط العلماء في مجال الفلسفة ب " التهافت " على البهتان بحسب ما جاء في كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة " الذي رد عليه ابن رشد بكتابه الشهير أيضاً " تهافت التهافت " . أما أخطر الأفكار التجديدية التي يزعم الغزالي وأضرابه أنه جدد بها الدين , فهي تلك التي عارض فيها بقوة , أن يكون المشتغلون والباحثون في علوم الطب والفلك والتشريح والكيمياء والرياضيات في عداد العلماء !! ‍‍‍‍‍‍‍.
على درب الغزالي سارت ثقافتنا وأصبح الفقهاء والمتكلمون في مجال النقل عن النصوص الفقهيه القديمة هم العلماء ، فيما أصبح تعريف العلم مقصوراً على الفقه . وبعد كتابه " جواهر القرآن " جاء كتاب " إحياء علوم الدين " الذي اشتهر به الغزالي ليحوي مجموعة من الأفكار التي يستطيع الباحث فيها تفسير أسباب تراجع الحضارة العربية الإسلامية ، ودخولها منذ المائة الخامسة الهجرية ، مرحلة جديدة إتسمت بأفول ذلك الوهج والبريق اللذين تميزت بهما فترة صعود هذه الحضارة في العصر العباسي الأول .
صحيح أن أفكار الغزالي المتشددة ضد الفلسفة والعلوم الطبيعية حاولت التماهي مع العقيدة الدينية ، إلا أنها لم تتمكن من إحتكار تمثيلها قطعاً وحصراً ، ولم تنجح أيضاً في قطع الطريق أمام محاولات أخرى للإحياء الإسلامي الصحيح لهذه العقيدة في أوقات متفرقة . أما قدرة أفكار الغزالي على البقاء لفترة طويلة ، فلا يعود سببها إلى قوتها أو إلى أنها تمثل تجديداً للدين والعياذ بالله ، بحسب ما يزعم به غلاة المتشددين و المتطرفين الأصوليين .
يبقى القول إن انتعاش الاتجاهات المحافظة والمتشددة في التاريخ الإسلامي يعود في تقديرنا إلى الظروف التي مر بها المسلمون في حقبة الغزو الصليبي وحقبة الغزو المغولي ، وصولاً إلى السيطرة العثمانية التي سبقتها سيطرة السلاجقة المرابطين في نيسابور التي اعترف الغزالي بأنه ذهب إليها وعاد منها برسالة " تجديد واحياء الدين " في المائة الخامسة من عصره ، وما رافق ذلك " التجديد والإحياء " من هدم للبنى الثقافية الحضرية ، وتصفية لكنوز المعرفة العلمية ، وتراجُع مكانة المدن والبيئات الحضرية ، مقابل هيمنة ونفوذ البيئات البدوية والثقافة القبلية ، وصولاً إلى الإنقطاع التام عن إبداع الحضارة والسقوط المريع في هاوية التخلف !!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.