من الممتع والهادف حقاً أن نجد الشعر معبراً عن تلك النزعة الإنسانية التي تلازم حياة الشاعر وتجعله أكثر قرباً من حياة أ ُناس دوت في أعماقهم تلك الانفجارات التي هزت كيان الشاعر وجعلته كتلة من المشاعر الإنسانية ذات التعبير البسيط الخلاب. وهذا ما نلمسه في قصائد الشاعر البصير عبدالله البردوني الذي غدا شعره رمزاً للتعبير عن الذات المنتصرة ، تلك الذات التي أتحدت مع البسطاء من الناس في نسق قل أن يوجد، والتحمت مع قضايا الوطن بوجدٍ عميق فكان لشعره تلك النضارة والقوة والألفة معاً. وهذه المعاني مجتمعة نجدها متجسدة في قصيدة رائعة عبر فيها الشاعر على لساني شيخين عن تلك الشجرة الوارفة التي نستظل بظلها كلما شعرنا بحرارة شمس الحاضر، وقارب النجاة الذي يقذف بنا إلى الشاطئ كلما ارتفعت الأمواج فوق مستوى طاقاتنا... تلك هي الذكريات...احتياج لا غنى للنفوس البشرية عنه فهي إما الزاد أو الألم وكلاهما ملازمان لحياة كل منا..ولأحاديث الذكريات نكهة خاصة وإمتاع فياض حين تنطلق من أفواه الشيوخ : كان يا(عمرو) هنا بيت المرح *** زنبقي الوعد صيفي المنح الطيوف الحمر والخضر على *** مقلتيه كعناقيد البلح كان مضيافاً إذا ما جئته *** شع كالفجر وكالورد نفح فانمحى يا للتلاقي بعدما *** نزح الرواد عنه ونزح هاهنا نجلس يا(عمرو) نرى *** ما اقتنى التاريخ منا واطرح خط آثار خطانا زمن *** بيديه وبرجليه مسح لقد نزح الرواد عن بيت المرح ، فماذا بقي غير التذكر والأسى لذلك البيت المضياف الذي تحمل له الذاكرة كماً مزدحماً من الذكريات التي لا يمكن حشدها. ماذا بقي غير الألم الذي زرعه التاريخ حين تنكر! وشعاع فجر المكرمات حين غاب! وطيوف وورود وعناقيد بلح رحل موسمها، ولقاء محت موعده السنون!ولأن الحسرة لا تنصف متألماً، ولان الإنسان يمتلك رصيداً آخر من الذكريات، فحين تضيق به الأيام ويقابل فيها حوادث تضيع في مقابلها الكلمات ، يلجأ إلى ذلك الرصيد الآخر عزاءً لنفسه ورحمةً بها : فانحنى(عمرو) وقال اذكر لنا *** يا(علي) الأمس واترك مااجترح أمسنا كان كريماً معدماً *** وزمان اليوم أغنى وأشح كيف كنا ننطوي خلف اللحى *** ونواري من هوانا ما افتضح كيف كنا قبل عشرين نعي *** همسة الطيف وإيماء الشبح ونغني كالسكارى قبل أن *** يعد العنقود أشواق القدح ثم أصبحنا نشازاً صوتنا *** في ضجيج اليوم، كالهمس الابح كل شيء صار ذا وجهين لا *** شيء يدري أي وجهيه أصح فحين يكون الأمس طيب العيش، رائع الملامح.. فلابد للذكرى أن ترسم كل تلك الصور الجميلة التي تلامس الوجدان وترحل بالنفس الإنسانية إلى مشاهد رائعة من زمن تولى ومضت معه كل تلك المعاني الجميلة والقيم النبيلة التي أصبحت غائبة وأضحت مبتورة وأمست في ضياع . ياعلي انظر ألاح المنتهى *** لا المنتهى المسعى ولا الساعي نجح لم نعد نهنأ ولا نأسى ذوت *** خضرة الأنس،خبت نار الترح أوخبا الحس الذي كنا به *** نطعم الحزن ونشتم المرح لم يعد شيء كما نألفه *** فعلام الحزن أو فيم الفرح ؟! إنها لحظات لا يمكن اختزالها..ومشاهد عالقة في ذاكرة الشيخين تلك التي وصفها الشاعر وصفاً مباشراً بسيطاً ، معبراً عن تلك المرحلة الحياتية(الشيخوخة) بدقة وصدق وبنبرات ألم عميق تلامس الوجدان وتجعله يأسى على زمن (الشيخين) الذي رحل تاركاً طعماً للحزن ورائحة للمرح .