في تجربة حرب المدن في النضال الوطني اليمني منذ ثورة 26 سبتمبر و 14 أكتوبر العديد من الدروس الفنية, لم يكتب حولها وما كتب هو الشيء القليل. في خصائص حرب المد ن بين تجربتي عد ن وصنعاء ،أو في خصائص الكفاح المسلح في شطري الاقليم نجد ان الكفاح المسلح ،في شمال الوطن ارتبط بقضية الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر. وتجربة الحرب في مدينة صنعاء ارتبطت بالدفاع الشعبي المسلح عن صنعاء في وجه الغزو الذي شنه الوف من المرتزقة اليمنيين والملكيين ومرتزقة أوربيون استأجرتهم الرجعية من اجل تدريب وتنظيم قوات المرتزقة. بينما نجد ان تجربة الكفاح المسلح في الشطر الجنوبي من الاقليم ارتبطت بالنضال من اجل تحرير كل ركن من البلاد من سيطرة المستعمرين .لقد سرنا في طريق الكفاح المسلح من اجل التحرير الوطني أربع سنوات كاملة. تميزت هذه السنوات بالتنامي المضطرد و التطور المستمر للكفاح المسلح. من أبرز ما يمكن ان نسجله في تجربة الكفاح المسلح, هو أننا بدأنا من لا شيء كانت حركة القوميين العرب تنظيماً سياسياً و لم يكن بعد قد عرف التدريب على السلاح, و ان كان الاطلاع على تجارب الكفاح المسلح في كوبا و الجزائر و الصين, حرب الأنصار لثورة أكتوبر الاشتراكية. قد اخذ يغزو عقول العديد من أعضاء الحركة قبل الانتفاضة المسلحة في ردفان اذكر إننا كنا نرتب بعض الرحلات الأسبوعية لبعض الأعضاء للمناطق الريفية, للتدريب على السلاح لكي يكونوا النواة للعمل الفدائي في عدن ولأول مرة اوجد لمس السلاح وانطلاق الرصاص روح المغامرة والحب لحمله لدى هذه العناصر مؤكدة استعدادها للمضي في المغامرة, دون حساب لحياتها فقد كان حبها للوطن وتحرره يشدها إلى البندقية. بعد اتخاذ قرار الأخذ بالكفاح المسلح طريقا لنيل التحرير الوطني بعد الانتفاضة المسلحة في ردفان, كان علينا ان نتوسع في تدريب الكوادر العسكرية ونعدها إعداداً سليماً. وبسبب ظروف العمل السري كنا نختار اصلب العناصر و أكثرها نضجا في الوعي السياسي. ولها أيضا خبرة تنظيمية طويلة. وبعد ان استكملنا تجهيز العناصر الفدائية بدأنا نفكر في نقل العمل الفدائي إلى المدن. وبالذات المستعمرة عدن. لم يكن الكفاح المسلح يشغلنا في الأرياف فقد كانت الظروف هناك ملائمة للسير فيه بحكم الطبيعة الجغرافية والجبلية مثل الضالع و مكيراس ويافع, و كان بالفعل قد قطع شوطا في إقلاق مضاجع المستعمرين الانجليز. كان تقديرنا انه إذا تم نقل العمل الفدائي إلى المستعمرة عدن فإن ذلك سوف يغير من ميزان قوى الثورة وكانت بريطانيا لا تكترث لخطورة الكفاح المسلح في الريف فهي مستعدة للمقاومة سنوات طالما انه لم يمتد إلى عدن. كانت عدن بمثابة عروسة في البحر الأحمر خلدت إلى السكينة والهدوء ولا يريد (ملاكها)المستعمرون ان تتعرض لخدوش النضال الوطني التقليدي فما بالهم أن تتعرض لدوي المفرقعات ورصاص(الإرهابيين) الجانب الآخر أيضا ان السكان لم يتعودوا سماع الانفجارات في حياتهم. ومن ناحية أخرى لم يكن فدائيونا قد مروا بالتجربة بالملموس ونفذوا عمليات على أهداف مباشرة تابعة للعدو و لذلك فقد كانت البداية صعبة بالنسبة لهم. فقد كان الاعتقاد أن المخابرات البريطانية تراقبهم وأنهم سينكشفون في الحال و كانوا في الواقع يحتاجون إلى الهزة الأولى قبل ان يتعودوا على ممارسة العمليات المباشرة مع العدو. هذا الاحساس يعود إلى الطبيعة الجغرافية لعدن فهي شبة جزيرة صغيرة وكعنق للزجاجة يسهل إغلاقها والسيطرة عليها بقوة محدودة في عدة دقائق أيضا يضاف إلى ذلك ان العناصر الفدائية لم تكن قد تدربت أو تعلمت شيئا عن حرب العصابات داخل المدن لكنها كانت تعرف عدن وشوارعها وأزقتها وجبالها. وبرغم الصعوبات إلا أننا كنا مهتمين بنقل الكفاح المسلح إلى عدن من اجل ذلك هيأنا كل شيء ووفرنا شروط تفجيره, وبرغم السياج العسكري البريطاني المضروب حول عدن, وبرغم نقاط التفتيش وعشرات الاميال من الأسلاك الشائكة. تمكنا من إدخال السلاح إلى عدن تارة مغامرة بالسيارات وتارة أخرى على الجمال التي كانت تنقل القصب والاعلاف والخضروات من المزارع إلى سوق عدن. وفي داخل المدينة كنا نقوم بصنع القنابل البلاستيكية من بعض المواد الكيماوية. وأوائل 1964م بعد مرور بضعة أشهر من الثورة نقل العمل الفدائي إلى المستعمرة عدن, حيث قام الفدائيون بسلسلة من عمليات رمى القنابل على منازل الضباط الانجليز وأنديتهم. كما ضربوا بقنابل البازوكا, وتسببت هذه العمليات بقتل وجرح العشرات من الضباط والجنود البريطانيين. وخلال هذه العمليات اكتسب الفدائيون دروساً كبيرة افادتهم في العمليات اللاحقة وأظهرت لهم نقاط الضعف في النظام العسكري البريطاني داخل المستعمرة لقد اكتشفنا ان عدن ليست عنق الزجاجة التي يمكن ان يسدها الانجليز في دقائق بعد سماع دوي انفجار. حدث مرة ان كلفت مجموعة صغيرة من الفدائيين بضرب المطار العسكري ليلا في خور مكسر, وعندما أطلقوا قذيفة ضاء انطلاق القذيفة الظلام من حولهم وكانت السيارات المدنية وبعض المارة يسيرون على بعد منهم, واعتقدوا ان الناس قد رأوهم وعرفوا شخصياتهم ولم يستكملوا إطلاق بقية القذائف المتفق عليها, اكتشفنا أنهم نسوا قذيفة واحدة في مكان العملية.. وكلفوا بالعودة من جديد للإتيان بالقذيفة. وبالفعل ذهب اثنان من الفدائيين, وكان تصورهما أنهما سيقعان في يد الجنود الانجليز وعندما وصلا لم يجدا أحداً في مكان العملية و شرعا يبحثان مدة من الزمن عن القذيفة حتى وجداها. هذه العملية عززت من تصميم الفدائيين على مواصلة السير في العمليات العسكرية وأكدت لهم ان العدو الاستعماري ليس بالبعبع المخيف. بعد ذلك استمرت العمليات بجرأة وقوة, فقد نقل مجموعة من الفدائيين مع القذائف إلى التواهي, حيث القيادة العسكرية للشرق الأوسط، صعدوا تلا يشرف على الإذاعة الانجليزية واحتلوا التل وأطلقوا عليها قذائف البازوكا حيث أصابوها بأضرار وقتلوا عددا من الجنود الانجليز الذين كانوا يحرسون الإذاعة ثم اخذوا طريقهم في الجبال ليعودوا إلى المدينة مشيا. طبيعي كنا في بداية العمل الفدائي داخل المدينةعدن وبقية المدن الأخرى نلجأ إلى أساليب التمويه المختلفة, مثل لبس الأقنعة وتغيير أرقام السيارات وانتحال شخصيات ضباط ورسميين بلباس رسمي, كنا مثلا نعد الأشخاص الذين سيقومون بالعملية ونعد السيارات بأرقام مزيفة ونحدد مكان اللقاء بعد تنفيذ العملية وننتهي بإخفاء كل شيء وإعادة السيارات بأرقامها الصحيحة ونسير بين الناس بطريقة عادية نجس نبض ردود الفعل لديهم حول العملية. واذكر انه بعد الضربة الأولى التي تعرضنا لها, عندما اعتقلت السلطات الاستعمارية بعض العناصر الفدائية العاملة, فكرنا بتوجيه ضربة لرجال المخابرات المحليين والانجليز على سواء, لأننا إذا تركناها دون رادع فسوف تقضي على مستقبل العمل الفدائي, ووجهنا في البداية العديد من الانذارات نحذر فيها رجال المخابرات المحليين من قضية متابعة الفدائيين ولكن يبدو أنهم لم يكترثوا وخططنا لاغتيال أبرز رجالاتهم. وكان المكان الذي سنقوم بالعملية فيه مكانا مزدحما بالناس ويقع وسط كريتر, حيث اعتاد العميل ارتياده. وحسب الخطة وصلت السيارة برقم مزيف وعليها الفدائيون يضعون اللثام على وجوههم إلى مقربة وأفرغت الرشاشات على جسمه ودبت في الناس الفوضى والصياح وحب الاستطلاع لمطالعة صور الفدائيين ولكي يخفي الانسحاب فجرت قنبلة دخانية اضطر الناس بعدها للهروب والانبطاح على اعتقاد منهم انها قنبلة قاتلة. بعد ذلك تتابعت عمليات اغتيال رجالات المخابرات الواحد تلو الآخر وطالت رشاشتنا صدور كبار ضباط المخابرات والمسئولين الانجليز مثل المستر بيري, وتشارلز رئيس المجلس التشريعي, وشيبرس. وللحقيقة ان سقوط العشرات من رجال المخابرات قضى على العقبات التي كان يمكن ان تحبط تطور العمل الفدائي وأعطى الإمكانية للسير قدما إلى الأمام. وحتى نهاية 1965م كان كل شيء تقريبا قد فلت من قبضة السلطات الاستعمارية, وعجزت عن توجيه ضربتها لقمع العمل الفدائي وساد لندن اضطراب حول معالجة الموقف في عدن وكان هناك رأي استعماري يقول بضرورة التشديد من الموقف في عدن تجاه الكفاح المسلح ووصل إلى حد أنهم قرروا تنفيذ حكم الإعدام ببعض المسجونين من قادة العمل الفدائي, وآخر يرى ان ذلك سيزيد من تأجج روح النضال الوطني للشعب. يمكن القول ان الكفاح المسلح في هذه الفترة تميز بظروف العمل السري وكان نجاح وثبات العمل الفدائي وتطوره الذي يمهد للانتقال إلى مرحلة المجابهة المباشرة لقوات الاحتلال, لكن الظروف التي نجمت عن قيام جبهة التحرير في بداية 1966م أعاقت فترة تحول العمل الفدائي مجابهة مباشرة مع العدو الاستعماري. ابتداءً من أواخر سنة 1966م وسنة1967م تحول العمل الفدائي من ظروف العمل السري إلى ظروف المجابهة المباشرة, فقد تميزت العمليات العسكرية بالتحرك المكشوف, والتمركز على أسطح المنازل و خوض معارك الشوارع ضد الدوريات وقوات المشاة. كما تميزت أيضا باستخدام سلاح مدافع الهاون والبازوكا وبالمقابل نجد ان قوات الاحتلال انتقلت من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع عن معسكراتها ومساكن عائلات الضباط في الأحياء الأوروبية مثل خور مكسر والمعلا والبريقة وكريتر. لكن حتى انتقال القوات البريطانية إلى مواقع الدفاع, لم يعرقل الثورة المسلحة بل أتاح لها الإمكانية ان تنتقل إلى طور جديد من العمل,هو طور الهجوم. بدلا من العمليات التي تقوم على الضرب والاختفاء السريع بالرغم من الحراسة المشددة على الأحياء السكنية التي تقطنها عائلات الجنود والضباط وحواجز الاسمنت المشيدة في الأزقة ومداخل الشوارع خوفا من كمائن الفدائيين, فقد لجانا إلى استخدام مدافع الهاون و البازوكا من مسافات بعيدة ونجحت العديد من العمليات الأمر الذي اضطر الانجليز في الأخير إلى اجلاء جميع العائلات و ترحيلها, وفي عديد من العمليات استخدمنا الهاون الثقيل ضد المواقع العسكرية البريطانية في التواهي وخورمكسر. ففي إحدى العمليات هاجمنا المطار العسكري بقذائف الهاون الكثيفة, وأصبنا بعض الطائرات الرابضة فيه, وبعد الانتهاء من العملية عاد الفدائيون إلى مقر القيادة في طريق الانسحاب حتى دخلوا الشارع, وكانت إحدى الطائرات لا زالت تتابعهم و تطلق الرصاص وتنزل إلى علو منخفض من الشارع ,ومع ذلك تمكن الفدائيون من الاختفاء وإخفاء مدافع الهاون الثقيل, كانت هذه المعركة عنيفة جداً. وفي عملية أخرى استطعنا إدخال مدفع الهاون الثقيل إلى منطقة الروضة المعلا, وقصفنا من على تل صغير قيادة الشرق الأوسط بعديد من القذائف وانسحبنا بسلام. وبعد عدة دقائق كان مدخل التواهي قد طوق من قبل الجنود البريطانيين ولكن لم يتمكنوا من العثور على شيء. ومن اعنف المعارك العسكرية التي وقعت كانت المعركة المكشوفة والمباشرة في الشوارع بين فدائيينا والقوات الانجليزية خلال قدوم بعثة الأممالمتحدة لتقصي الوضع في المنطقة في ابريل 1967م فقد استمرت المعارك في الشوارع والأحياء طوال الأيام التي بقيت فيها اللجنة في عدن وبشكل متواصل, وكان سلاحنا في هذه المعارك السلاح الخفيف من الرشاشات والقنابل ومدافع البازوكا بينما استخدمت القوات البريطانية الطائرات والدبابات و قوات المشاة, لقد تحولت عدن بالفعل إلى ساحة معركة دموية بين الثوار والقوات الاستعمارية. تلك هي ابرز العمليات العسكرية في حياة الثورة وتجربة حرب المدن ويمكن القول ان هذه التجربة قد توجت باحتلال كريتر في 20 يونيو1967م لأكثر من أسبوعين الأمر الذي كان نقطة تحول في الكفاح المسلح وتعبئة الجماهير لإسقاط المناطق الواحدة تلو الأخرى من المستعمرين. بعد الهزيمة العسكرية التي تعرضت لها الجيوش العربية في حزيران 1967م وأدت إلى احتلال إسرائيل لكثير من الأراضي العربية, اعتقد الاستعمار انه في وضع يمكنه من توجيه الضربة النهائية للثورة خاصة وان ردود الفعل النفسية من الهزيمة لدى الجماهير الشعبية كانت قد تركت كل اثر سلبي قانط في النفوس. ولذلك فقد حاولت تصفية بعض العناصر المؤيدة للجبهة في الجيش والأمن من اجل الدفع بالصدام مع الفدائيين والقيام في 20 يونيو1967م الأمر الذي أدى إلى التضامن النضالي بين جنود الأمن والفدائيين والقيام بالانتفاضة المسلحة في مدينة كريتر, حيث تم الاستيلاء على مخازن السلاح وتوزيعه على الفدائيين وأنصار الجبهة وجرت العديد من الاشتباكات مع الجنود الانجليز في المدينة, حيث قتل العديد منهم, وهرب الآخرون إلى خارج المدينة ودمرت العديد من الآليات. وبعد ان تمت السيطرة الكاملة على المدينة تحملت الجبهة مسئولية إدارتها وتحصنت قواتها على قمم الجبال ومداخل المدينة, وبدأت المعارك تأخذ مجراها بين قواتنا والقوات الانجليزية التي كانت تتمركز في أماكن متفرقة من حي المعلا ومفارق طرقها. وطوال فترة إسقاط مدينة كريتر, استخدمت القوات البريطانية مختلف الأساليب العسكرية لاستعادتها ولجأت إلى محاصرتها لمنع أي تموين بالسلاح للفدائيين, ولكن حصارها فشل, واستمرت قواتنا تدافع عن المدينة طوال فترة سيطرتها عليها مؤكدة بذلك عزمها و تصميمها على تحقيق الاستقلال الوطني مهما كان الثمن. ولجأت بريطانيا في الأخير إلى استجلاب قوات الكومندوز الخاصة لاستعادة الدخول وقد كانت القوات البريطانية تضع العلم البريطاني في كل شارع تحتله, وطبيعي كانت قواتها تفوق قواتنا, ولم يكن في مخططنا الاستمرار في السيطرة على المدينة, لأننا حققنا النصر الذي كنا نريده.