(جيكور) .. تلك القرية الصغيرة التي غادرها الشاعر بدر شاكر السياب تاركاً كل ما فيها من أجواء طبيعية وصفاء في النفوس وأيام عرف معها نور الحياة.. ودفئاً وألفة بين الأهل والأًصحاب.. تلك صورة حميمة نقلها إلينا الشاعر بأعمال أدبية رفيعة في براعة الأداء والأسلوب ووضوح الفكرة . فقد صور لنا تجربة إنسان معاصر في المدينة تنفعل ذاته دوماً بلهفة وشوق إلى أرض تمنحه عبق الماضي ونفحات من البيت القديم... ففي كثير من قصائده الرائعة يصور (السياب) إحساس الريفي الذي ترك قريته وحل في مدينة حافلة بالضجيج. وقد صور لنا في قصيدته (يا غربة الروح) ،الجوانب الإنسانية البعيدة عن القيم النفعية المباشرة بين الناس ، فنجد ذلك التعلق بالأصالة والارتباط بالقرية وما تشيعه من ود ومحبة بين الأهل والأصحاب : يا غربة الروح في دنيا من الحجر والثلج والقار والفولاذ والضجر يا غربة الروح لا شمس فأأتلق فيها ولا أفق يطير فيها خيالي ساعة السحر نار يضيء الخواء البرد تحترق فيها المسافات تدنيني بلا سفر عن نخل جيكور أجني داني الثمر نار بلا سمر إلا أحاديث من ماضي تندفق كأنهن حفيف منه أَخيلة في السمع باقية تبكي بلا شجر نستطيع في هذا المقطع إدراك العمق الذي بلغه السياب في القصيدة ، فنحن نشاركه انفعاله عندما يضيق ذرعاً بالمدينة التي لا يرى فيها إلا حجارة وثلجاً وضجراً، ويزداد ألمه عندما تطير به أجنحة الخيال ليذكر دفء الأيام الماضية في التفاف الأهل والأصحاب حول نار السمر ، وصورة أخرى مدهشة لذلك (الحفيف) المترامي إلى سمعه لكنه يبكي الشجر المفقود وكأنها الأيام المفتقدة عند الشاعر . ونتابع معه (غربة الروح) بقوله: مسدودة كل آفاقي بأبنية سود،وكانت سمائي يلهث البصر في شطها مثل طير هده السفر النهر والشفق تميل فيه شراع يرجف الألق في خفه وهو يحثو كلما ارتعشا دنيا فوانيس في الشطين تحترق فراشة بعد أخرى تنشر الغبشا فوق الجناحين .. حتى يلهث النظر يصف شاعرنا هنا حصار الأبنية العملاقة له فلا يعرف متنفساً ولا أفقاً يسبح فيه النظر ، وتتدفق الآمال وخطوط الأيام المقبلة ، وسرعان ما نجد (السياب) يهرع إلى النهر والخضرة والسماء تتسع لمد البصر والتأمل والأضواء تنعكس لامعة براقة بألق في الماء المتهادي ولعلنا نبلغ شغاف القلب عندما نلمح تلك الفراشات المحترقة باقترابها من الضوء الشديد، فالسياب هنا يشتاق إلى حياة أكثر حرارة في إحساس المرء بالمجتمع وائتلافه معهم بلا قيود من المصالح المباشرة والدوران العنيف في آلات لا تعرف نبض النهار المشرق ولا روعة الفراشات. وبعد تلك الغربة القاسية ،نصحب (السياب) في رحلة إلى (جيكور) .. بلدته التي أحبها فكانت (قلباً نابضاً) في كثير من قصائده الرائعة: ما نفضت الندى عن ذرا العشب فيها ما لثمت الضباب الذي يحتويها جئتها والضحى يزرع الشمس في كل حقل وسطح مثل أعواد قمح فر قلبي إليها كطير إلى عشه في الغروب هل تراه استعاد الذي مر من عمره كل جرح وابتسام؟ نشهد (القرية ) مع الشاعر وهي في الصباح الباكر عند نهوض الفلاح إلى حقله المغطى بقطرات الندى اللامعة مع خيوط الضوء وأن تكن خفيفة هادئة ، ونلمح ذاك الضباب المحبب إذ يلف القرية .. المساكن منها والدروب وأطراف البساتين والحقول الممتدة وبعد هذا تطل الشمس إذ ترك الضباب السبل أمامها.. ويدخل هذه اللحظة شاعرنا فيسافر نظره مع أشعة الشمس وهي تفرش كل ما تصادفه وتدور الأيام وساعاتها مع إحساس عميق بضرورة العودة إلى الأصل .. المنبع والجذر (القرية ) فإنما العيش في هذه الدار على بساطتها يشمل كل ما في الدنيا كالطير يعود إلى عشه مع ظلام الليل ليجد المأوى والسكينة والأمان وتستوي ساعات الفرح والابتسام والإرهاق والألم لأن ذلك البيت يحتويها ، فالغد يأتي وفيه ما يؤكد السعادة أو ما يذهب الكآبة والتعب ، فالألفة والاطمئنان يعطيهما اللقاء مع الأهل والأصحاب ، وكذلك تتدافع الذكريات مع كل جزئية نصادفها وتثير كوامن النفس . والشاعر هنا لم يسبح في عالم بعيد عن البشر، لكنه وقف عند لقمة العيش (القمح) الذي يرمز إلى الخير والعطاء في الحقول . ولنلحظ اختيار الموقع إنه حقل تبذر فيه الحبات المباركة فتعود سنابل بمئات من الحب الذي يدخل البيوت وهو قرين (الأمان) ..وعلى هذا نستطيع أن نبصر التواصل مع الأرض إنها منبع البهجة المثمرة .. وكذلك نعرف لماذا يحن السياب ويتشوق إلى الدار !، ذلك المكان المليء بالطمأنينة فهو يفتح عينيه ليجد طرقاً تؤدي إلى ما تسكن النفس إليه والى ما يكفي زاد اليوم والغد. ثم يترنم الشاعر بنشوة متألقة ويسترجع الحلو من أيامه السالفة .. إنها أيام الصبا المتدفقة في القلب والتي أصبحت مجرد ذكرى بعيدة المنال يتغنى بها بلهفة وشوق وأسى: يا صباي الذي كان للكون عطراً وزهواً وتيهاً كان يومي كعام تعد المسره فيه نبضاً لقلبي تفجر منها على كل زهره وفي قصيدة (أفياء جيكور) ،يقول: أفياء جيكور نبع سال في بالي أبل منها صدى روحي في ظلها أشتهي اللقيا وأحلم بالأسفار والريح. وهكذا ظل شاعرنا منادياً بذات شجية لطبيعة (جيكور) وأيامه فيها.. أزاهير.. عصافير .. ظلال وفراشات ومطر... جيكور جيكور يا حفلاً من النور يا جدولاً من فراشات نطاردها في الليل في عالم الأحلام والقمر ينشرن أجنحة أندى من المطر