حرص الإسلام أشد الحرص على توثيق العلاقات بين الناس, وأكد أن تكون هذه العلاقات قائمة على التسامح والتعاون, وأن يكون التسامح في المعاملات أظهر وأوضح من التشدد, فإن ما بين الناس من روابط إنسانية وأخوة عامة تدعوهم إلى أن يعيشوا عيشة راضية هنيئة, تسودها المحبة, ويحوطها التسامح, وهو ما يجعل الحياة هادئة آمنة, ويجعل الناس يعيشون في سعادة ورفاهية, ولكن الناس في تزاحمهم على موارد الرزق, وابتعادهم عن تعاليم الإسلام, وتكالبهم على الدنيا نسوا هذه المبادئ السامية الرحيمة, لذا فإننا نرى الأثرة وحب الذات هي الغالبة في حياتنا, والمسيطرة على نفوس كثير من الناس في مجتمعنا, إذ يلاحظ أن النزعة المادية لدى بعض الناس تدفعهم إلى أن يتعاملوا بضراوة فيما بينهم, فيصبحوا شركاء متشاكسين على الدوام بدلاً من أن يكونوا شركاء متسامحين باستمرار. وفي هذا الوسط قد يتحرك غول الطمع الموجود في داخل بعض الناس, فيدفعه ليستجيب لغرائزه ورغباته, فلا يحب إلا نفسه, ويسلك سلوكاً مشيناً في علاقته الاجتماعية, فتجده يأخذ ولا يعطي, وتراه دائماً متذمراً من واقعه, غير راضٍ بما قسم الله له, وغير زاهد فيما لدى الناس, وإذا نظرت إليه - في هذه الحالة - فلا تراه إلى ممتد العين إلى ما في أيدي الناس, وفي نفسه رغبة جامحة في أن يستولي على ما في أيدي الآخرين, وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف القائل : «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث, ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب». ونفهم من الحديث الشريف أن الإسلام كره خلَّة الطمع في الإنسان وبين أنها دليل على قسوة قلب صاحبها, وخلو نفسه من الرحمة, ومن خلا قلبه من الرحمة فهو شقي, وقد أخبرنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله : «إن أبعد الناس من الله قاسي القلب» وقوله في حديث آخر : «لا تنزع الرحمة إلا من شقي». فالرحمة دليل على كمال الإيمان, وهي من أخلاق الأنبياء والرسل, ولذا فإن أكثر الناس نصيباً من الرحمة هم الأكثر استحقاقاً بالمغفرة والرضوان. والرحمة التي أمر بها الإسلام ليست تلك التي بين المرء وأخيه فحسب, بل هي الرحمة العامة في أوسع ميادينها, وأرحب آفاقها, بما يعني أنها بين الأخ وأخيه, وبين الجار وجاره, وبين الإنسان والحيوان, أي أنها رحمة شاملة تشمل كل شيء, بحيث يظهر أثرها في تعامل الناس مع بعضهم, وفي تخاطبهم فيما بينهم, ويظهر أثرها كذلك في الأخذ والعطاء, في البيع والشراء, في القضاء والاقتضاء, ولا يستطيع الإنسان أن يبلغ هذه الدرجة من الرحمة إلا إذا كان سمحاً إذا باع, وسمحاً إذا أشترى, وسمحاً إذا اقتضى أو إذا قضى». وهو ما أشار إليه النبي بقوله : «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا أشترى وإذا اقتضى وإذا قضى». وإذا تأملنا في معنى هذا الحديث الشريف لوجدناه جامعاً لمعنى السماحة المطلوبة في المعاملات القائمة بين الناس في أيامنا, ومتى ما أبتعد الناس عن السماحة في تعاملهم مع بعضهم كثرت منازعاتهم وزادت خصوماتهم, وتولدت الأحقاد في نفوسهم, وزرعت العداوة في قلوبهم, وانتشرت البغضاء في أوساطهم. إن السماحة في البيع تدعوا البائع إلى أن يكون راضياً قانعاً بالربح البسيط, ويحسن التعامل مع الزبون, بحيث يكون طلق الوجه, لين الجانب, لا يغالي بقيمة سلعته, ولا يبالغ في طلب الربح, ولا يكثر من المساومة, ولا يقسم بالأيمان, المغلظة ليبرهن على صدق حديثه, أو لترويج تجارته. وإذا كان الإسلام قد دعا البائع إلى أن يتخذ السماحة دستوره الدائم في تعامله مع الناس, فكيف به إذا كان بعيداً عن السماحة, أو نبذها جانباً, ولم يراعها في تعامله مع الناس, إنه من غير شك سيكون بابتعاده عن السماحة قد توغل في كثير من المعاملات المحرمة, إلى غير ذلك من الأفعال المنكرة التي يحرمها الإسلام. - إمام وخطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان).