ماذا سأكتب هذا الأسبوع؟ سؤال استفزه اقتراب الخميس الكتابي، دون كلمة أطلقها في الأثير لتستقر في فضاء إخباري يمني به أعتز، وله أتجه. حقا ماذا سأكتب، ولا أحد من أبناء جيلي – جيل الولادة السبعيني- رفع عن روحي خشية أن تكون وحدها مع خيبات الزمن، منذ الولادة، وحتى مطلع هذه الألفية الدامية؟ ماذا سأكتب ولم أسمع تصريحاً جديداً لباجمال؟ ماذا سأكتب وجيلي الذي أنظر بعينيه كلّ ناظره، أو لم يعد يؤمن بجدوى أن يرى؟ حسنا، فماذا سأكتب ورشيدة القيلي لا ترد على سؤالاتي لها وعنها؟ ماذا سأكتب بالفعل؟ أنا في ورطة الموعد الأسبوعي أتخبط في الجواب باحثة عن كتابة لائقة بقراء يسكنون احتمالاتي، وأسعى معهم لتأثيث المسافة بيننا بجماليات الرفض الصادق، بتنظيم الفوضى المحيطة بنا بفوضى مضادة. هل أكتب من الرباط، أي عنها؟ أعني لو أكتب، مثلا، عن أكثر الأحداث حضورا في الراهن المغربي، فحدث الساعة بتوقيت، أشقائنا في المغرب (الذي يوافق التوقيت العالمي كما تصر إذاعة الرباط على الترديد)، حدث الساعة هنا، هو حملة المغادرة الطوعية، ويقصد بها أن يبادر الموظفون الحكوميون، قبل سن التقاعد، بإطلاق سراح مقاعدهم الوظيفية (لم استخدم كلمة الكراسي نظرا لحساسية الكلمة السلطوية) طوعا، بمقابل مادي، يتفاوت بحسب المتبقي من سنوات الخدمة، دون أن يلغي أجرهم، حين بلوغهم سن التقاعد؛ وهي مبادرة أملاها، من لا ترد مشيئته في دولنا المدعوة بالنامية، نعم إنه البنك الدولي: الإله الجديد لحكومات كثيرة. وقد تبنت المغرب المبادرة استجابة له، في سبيل تحقيق إصلاحات ترمي إلى التخلص من عبء الموظفين الوهميين، أو ما يسميهم المواطن المغربي بالموظفين الأشباح (لهم نظراء يمنيون أكثر عدداً وخطراً، كما لا يخفى). ويأمل المغرب أن تساعد هذه البادرة في حل مشكلة العاطلين، وهو إشكال مغربي كبير (و لا أشك في أن اليمن تسعى للحاق بأخواتها في هذا المسار، والبشائر ولله الحمد لا تكذب ظننا في بلادنا التي تطوي في سبيل المواكبة المراحل طياً إن لم نقل تحرقها شر حريق). و لم يفت الشارع المغربي أن يعلق على الحدث بطرافة، روجت نكتا، منها ما مفاده: أن رجلا قام بالمغادرة الطوعية، وحين عودته إلى منزله بمبلغ التعويض المالي الذي كان ضخماً، سألته زوجته جذلى: وأنا كم ستعطيني من هذا المبلغ الكبير؟ فأعطاها نصف المبلغ بسعادة حقيقية قائلا لها: خذي هذا المبلغ وبادري أنت كذلك بالمغادرة الطوعية. في إطار التعليق على هذا التعليق المتهكم بكل حمولته الاجتماعية الساخرة والناقدة التي لا أريد أن استسلم لاستدراجها أياي إلى فخ مناقشة علاقة المرأة بالرجل، فأنا لن أقول مثلاً، إنني ضد هذه الرؤية للمرأة؛ ولن أقول أيضاً إن مؤسسة الزواج تظلم النساء وتسجنهن في أدوار تخضع لمقتضيات السوق، بمعنى أن المرأة في الغالب سلعة تكون ذات قيمة في عمر معين وينتهي العمل بها(صلاحيتها بالتعبير التجاري) في عمر معين آخر؛ نعم لن أقول ذلك، وغيره مما يضج داخلي، فقط أريد، بلسان الكثيرين من المواطنين اليمنيين، أن أخاطب، دون إلغاء واجب الاحترام المفروض، أخاطب أكثر من مسؤول في بلادنا، يحتل أكثر من منصب، مما يعزز فكرة الشبحية المذكورة أعلاه، أريد سؤاله/ سؤالهم: وأنتم كم تأخذون – مما أبقيتموه لنا- وتبادروا بالمغادرة الطوعية؟ لا...، لا أريد أن أكتب عن هذا الموضوع، فما شأني والمسؤولين أوسعهم بالأسئلة؟ وما جدوى السؤال في بلاد لايرن فيها سوى الصمت، أو القيد كما كان قبل أربعين شمسا أو يزيد (المقصود بيزيد هو الفعل المضارع، من الماضي زاد، و لا علاقة للأمر بابن معاوية، و لا حتى بمعاوية ولد أحمد الطايع)؟ فلأكتب عن موضوع آخر أكثر أمانا؛ وإن كانت وجهته الخراب: نعم أعني الكتابة عن زبيد، أو لزبيد: المدينة العتيقة التي كانت بحق أول مدينة جامعية بالمعنى المتعارف عليه عالمياً للمدن التعليمية، وهذه ليست شهادة مني بل هي شهادة خبراء أجانب درسوا نظام المدينة أيام عزها العلمي، وأيام كانت مدينة العلم بحق، وأنا إذ أنسب الشهادة لمصدرها فليس ذلك نزاهة مني- كم تعرفون- بل لمعرفتي/معرفتنا، بأننا في الدول المتخلفة جميعنا، لا نعترف إلا بشهادة الخبير الأجنبي، أما الخبير اليمني، مثلا، فلا يصلح إلا للتخزين، و عندها تقف حدود خبرته (بضم الخاء وكسرها) أو مخابرته بالتعبير العامي الفصيح. ولأعد إلى زبيدالمدينة التي تعد أحد كنوز الإنسانية، ومدينة عالمية في تراثنا، تضيء للإنسانية، كما تضيف بصمتنا اليمنية على مآثر العالم. زبيد من منا أحبها كما فعل زين العابدين فؤاد ذلك الرجل القادم من (كتاب النيل) حاملا (وجه مصر) العطاء لنا؟ من منا قدم لها ما قدمه ذلك الرجل القادم من أرض الكنانة أعزل من كل الأسلحة إلا من الحب، إلا من الشعر؟ هو، فيمن عرفت، من قدم زبيد لمواطنيها، ولمبدعينا، قدم تميزها الفني بتميزها الفني، ودعا بل صرخ واستصرخ لإنقاذ معمارها من الاندثار. ثم ماذا؟ رحل الرجل عن أرضنا، وكأن شعراً لم يكن، وكأن حملة حب للمحافظة على مدننا التاريخية لم تنطلق، فهاهي زبيد تتفتت، ويتساقط لحم مبانيها بين أعيننا، و لا أحد يحرك ساكنا، ممن يجب عليهم الحراك، و لا تكفي الكتابة وحدها كي ترقأ جرح التفتت، أو ترتق بعض هذا الخراب. زبيد وأخواتها من مدن التراث العالمي في اليمن، شهادة حية على موتنا، شهادة عميقة علينا، على سطحنا الخاوي الآن، أكثر مما هي لنا، شهادة لماضينا فحسب، وشاهدة إدانة ضد حاضرنا برمته، فليس أكثر إدانة من تواطؤنا: - على مدينة تموت وحدها وبوسعنا أن نمدها بأسباب الحياة. - على مدينة تتهدم قطعة قطعة. وتساقط أشلاؤها شلوا وراء الآخر، ونحن نكتفي بالفرجة. - على مدينة تذرف فرادتها بيتاً إثر بيت،في حين بوسعنا أن نكفكف دموع بيوتها المتلاشية. - على مدينة تلفظ أنفاسها الحضارية ونحن نوغل في صمت مريب، ونمرر تشويها متزايداً لوجهها الحقيقي، وجهها الأصيل. - على مدينة تزحف فوق صفحة وجهها بثور قبيحة وغريبة، عن جسدها المتآلف، بثور عمرانية رخيصة صارت تنخر في لحم المدينة القديمة كأنها السرطان ينتشر ليدمر خصوصيتها المعمارية. سرطان يواجهنا بإدانة من نوع خاص، فهل نحن حقا كما يقول سرطاننا: هل نحن حاقدون على آبائنا لأنهم يكشفون بعظمة ما تركوه من منجزات ضحالة ما نحن فيه؟ فهل نحن- حقا- مصابون، بحسب التعبير الفرويدي، بعقدة قتل الأب، أم أننا تجاوزنا العقدة لتضم الأم/اليمن، بل لتستهدف قتل كل العائلة، ومن قبلها قتل الذات، أو من بعدها، لا فرق، هل وصلنا إلى هذا الحد من القدرة على الدمار الشامل؟ ويا خوفي من ملاحقة أمريكا وشركائها لنا بتهمة حيازة أسلحته، ذلك الدمار الشامل الذي أنجزناه دون أسلحة نلاحق بتهمتها. لا...، لا، لن أكتب في هذا الموضوع الإجرامي، لا أريد أن أغرق في لجته التشاؤمية، و لا أسعى أن أوثق للخراب، أو أن أدون تهدماتنا لمجرد الاحتفاء بالتهدم، أو الحزن منه، أسعى لتجاهله، مهما كان صارخا في حضوره، ومكتسحا لمعاني البناء التي صارت تغيب عن حياتنا، مؤكدة الحقيقة/ المثل: مخرب غلب ألف عمّار. وللتنبيه فقط: لقد أصبح لدينا أكثر من ألف مخرب، فهل سيجدي عمّارنا الواحد، إن وجد؟ إذن ماذا سأكتب؟ لقد تأخر بي الوقت، تأخرت بي الكوارث في سردها، ولم أجد حتى الساعة موضوعا لائقا بالنشر. يبدو أنني سأرسل اعتذاري وتلك مبرراته، السيد رئيس التحرير: معذرة، لن أكتب اليوم.. مع خالص تقديري.. ابتسام.