كفل دستور الجمهورية اليمنية المعدل سنة 1994 – صراحة – حرية المواطنين في تكوين الأحزاب السياسية، والهدف المعلن لإقرار الدستور بالتعددية الحزبية هو الوصول الى تطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة، وكان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية رقم66/1991 قد حدد شروط تأسيس الأحزاب وممارسة النشاط الحزبي والقيود الواردة على ذلك، وتعد الصحف الحزبية أهم وسيلة من وسائل ممارسة هذا النشاط متاح لأحزاب المعارضة السياسية امتلاكها في بلادنا، وقد كفل المشرع للأحزاب هذه الحرية فلم يجز للسلطة تقييدها من خلال أي إجراءات إدارية، وقرر في ذات الوقت ضمانة عملية مهمة تتمثل في إسناده لمهمة الفصل في أي منازعات قد تنتج عن ممارسة الأحزاب لنشاطها بالوسائل المشروعة ومنها الصحف الحزبية إلى جهة القضاء لما تتمتع به من - حيث الأصل- من استقلال ونزاهة وحيادية عن طرفي النزاع. والحقيقة أن ساحات القضاء تشهد نزاعات بالجملة بين سلطة الإدارة والصحف الحزبية وغير الحزبية، ونقرأ بين الحين والأخر عن أحكام تصدر هنا وهناك تقضي بوقف صحف حزبية لمدد تتفاوت من حكم لأخر حسب ظروف كل دعوى، وتقدير المحكمة لوقائعها. والتساؤل المطروح هنا هو هل يجيز المشرع للقضاء الحكم بوقف صحف الأحزاب السياسية، وهل ورد النص على حالات محددة حصرا تُعملُ من خلالها المحكمة اختصاصها ؟ أم أن الجواز خاضع لمطلق السلطة التقديرية للمحكمة ؟ وهل تخضع صحف الأحزاب السياسية لذات الأحكام التي تخضع لها الصحف الأهلية ؟ أم أن المشرع خص الصحف الحزبية بأحكام أخرى نظراً لأهميتها بين وسائل ممارسة النشاط الحزبي؟ إن المتتبع للأحكام التي أصدرتها عدد من المحاكم في أمانة العاصمة بوقف عدد من صحف الأحزاب السياسية يدرك للوهلة الأولى أن هناك إفراطاً قضائياً في هذه المسألة يعد انتهاكا لحرية ممارسة النشاط الحزبي من جانب الجهة التي افترض المشرع حمايتها لهذه الحرية، ويلاحظ كذلك أن المحاكم لا تميز في قضائها بين صحف حزبية وغير حزبية، من حيث إخضاعها لقانوني الصحافة والمطبوعات وقانون العقوبات، ولا اعتراض على ذلك فيما يتعلق بجرائم النشر المرتكبة بواسطة المحررين في هذه الصحف، وإنما الاعتراض على إخضاع الصحف الحزبية ذاتها لاحكامهما، مع أنها تخضع لأحكام خاصة بها تنظمها بشكل مستقل عن الصحف الأخرى. وإذا ما عدنا للإجابة على التساؤل السابق نقول نعم يجيز المشرع اليمني للقضاء الحكم بوقف صحف الأحزاب السياسية لكن هذا الجواز ليس مطلقا، بل محددا حصرا في حالة واحدة تضمنتها المادة (34) من قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية الواردة ضمن الباب السادس الذي خصصه المشرع للأحكام الجزائية والتي نصت على أن " في غير حالات الحل الاختياري أو الاندماج أو الانضمام لا يجوز حل الحزب أو التنظيم السياسي أو وقف نشاطه أو أي قرار من قراراته إلا بموجب حكم قضائي بناء على طلب مسبَّب يتقدم به رئيس لجنة شئون الأحزاب والتنظيمات السياسية بعد موافقة اللجنة إلى المحكمة المختصة لحل الحزب أو التنظيم السياسي وتصفية أمواله وتحديد الجهة التي تؤول إليها تلك الأموال وذلك لأحد الأسباب: أولاً: فقد شرط من شروط التأسيس المنصوص عليها في المادة (8) من هذا القانون. ثانياً: ارتكاب الحزب أو التنظيم لأي من المحظورات المنصوص عليها في المادة (33) كما يجوز لرئيس اللجنة بعد موافقة أعضائها أن يطلب من المحكمة المختصة وبصفة مستعجلة وقف نشاط الحزب أو التنظيم أو أي قرار من قراراته لأحد الأسباب المبينة بهذه المادة إلى حين الفصل في طلب الحل، وتعلن عريضة الطلب في أي من الحالات السابقة شاملة الأسباب التي تستند عليها إلى رئيس الحزب أو التنظيم خلال ثمان وأربعين ساعة من تاريخ إيداعها قلم كتاب المحكمة ويجب على المحكمة أن تفصل خلال خمسة عشر يوماً في طلب وقف نشاط الحزب أو التنظيم أو أي من قراراته وعلى أن تفصل في طلب الحل خلال مدة لا تزيد عن تسعين يوماً من تاريخ إعلان اللجنة لرئيس الحزب أو التنظيم بالطلب. ومؤدى ذلك – وفقا لمفهوم النص السابق - أنه لا يجوز للمحكمة أن تأمر بوقف صحف الأحزاب السياسية - بوصفها من أهم وسائل ممارسة النشاط الحزبي - إلا إذا كانت هذه المحكمة تنظر طلبا اصليا مقدما إليها من رئيس لجنة شئون الأحزاب بحل الحزب الذي تتبعه الصحيفة المراد إصدار أمر بوقفها، ويعد هذا الوقف مؤقتا إلى أن تصدر المحكمة حكمها في شأن طلب لجنة الأحزاب حل الحزب خلال مدة تسعين يوما ويمكن أن تعود الصحيفة للصدور إذا ما قضت المحكمة برفض طلب اللجنة، أما إذا قضت بحل الحزب فإن الصحيفة تعتبركأن لم تكن. وبذلك فإن المحاكم العادية هي المختصة وفقا للنص السابق بوقف نشاط الحزب – ومن ذلك صحفه - باعتبار أن الوقف في هذه الحالة فرعياً ويرتبط وجوداً وعدماً بطلب أصلي تنظره المحكمة وهو طلب حل الحزب، أما في غير هذه الحالة فلا يجوز للمحكمة المختصة أن تقضي بوقف الصحف الحزبية وإن كان قد صدر عنها ما يعد جريمة نشر وفقا لقانوني الصحافة والمطبوعات والعقوبات، باعتبار أن جرائم النشر يساءل عنها المحررون في الصحيفة الحزبية وليس الصحيفة ذاتها، والقول بغير ذلك لا يتفق مع إرادة المشرع في حصره لجواز وقف صحيفة الحزب في حالة واحدة، ويفتح الباب واسعا للعسف بهذه الحرية التي أولاها المشرع جل عنايته. وإذا لم يكن جائزا للمحكمة المختصة الحكم بوقف صحف الأحزاب السياسية في غير الحالة السابقة التي حددها النص حصرا، فإن عدم الجواز أولى بالنسبة لغيرها من المحاكم ذات التشكيل الخاص كما هو الحال بالنسبة لمحكمة الأمور المستعجلة باعتبار أنها مؤقتة بمدة زمنية محددة بشهري الأجازة القضائية، في حين أن النص السابق حدد للمحكمة المختصة تسعين يوما تفصل خلالها في الطلب الفرعي ( وقف الصحيفة ) والطلب الأصلي ( حل الحزب ) ولا يجوز لهذه المحكمة التصدي لنظر طلب بحل حزب سياسي، وبالنتيجة لا يجوز لها الحكم بوقف نشاطه، باعتبار أن مدة هذه المحكمة أقل من المدة التي قررها المشرع للفصل في طلب حل الحزب، كما نص على أن المحاكم العادية هي المختصة دون سواها بنظر المنازعات الناتجة عن ممارسة الأحزاب السياسية لنشاطها الحزبي، ولا يصح القول أن هذه المحكمة يمكنها نظر طلب حل الحزب وما يتعلق به من طلبات فرعية بإجراءات مستعجلة، لان الحكمة التي أرادها المشرع من تحديد المدة بتسعين يوما إنما هي لصالح الحزب السياسي ليتمكن خلالها من الدفاع عن نفسه وتفنيد الأسباب التي بني عليها طلب الحل، وحتى تتسم إجراءات المحاكمة بالتروي قبل الفصل في الطلب، وهذه المدة بالنسبة للمحكمة المختصة إلزامية وليست تنظيمية، ومن ثم لا يجوز لها إصدار حكمها في طلب الحل وما يتعلق به من طلبات بإجراءات مستعجلة، لان القول بغير ذلك يجافي الحكمة التي قرر المشرع من أجلها هذه المدة. وإذا ما رجعنا إلى حكم المادة( 15) من قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية والتي تنص على أن "... تحال القضية من اللجنة أو بدعوى مبتدأة إلى المحكمة المختصة للفصل فيها بصفة الاستعجال..." يتأكد لنا من خلال هذا النص أن صفة الاستعجال التي قررها المشرع في هذه الحالة أنما هي لمصلحة الحزب السياسي، إذا ما أصدرت لجنة الأحزاب قرارها برفض الطلب المقدم إليها من المواطنين الراغبين في تأسيس حزب سياسي يمثلهم، ذلك أن التطويل في هذه الحالة في إجراءات التقاضي من شأنه الإضرار بالحزب تحت التأسيس، كما أن الاستعجال في إجراءات الحل يعد مجازفة من شأنها إلحاق ضرر بالغ بحزب قائم ويمارس نشاطه بصورة مشروعة، ومن ذلك يتضح أن تقرير المشرع صفة الاستعجال في الحالة الأولى (رفض التأسيس)، والتأني في الحالة الثانية( طلب الحل) الحكمة منهما مصلحة الحزب السياسي في الحالتين. وهو ما يعني أن المشرع قد رسم للمحاكم طريقاً واضحاً من خلال الأحكام والإجراءات المنصوص عليها في قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وألزم المحاكم باتباعها عند نظرها للنزاعات الناتجة عن ممارسة النشاط الحزبي، ومن ثم يقع على عاتق هذه المحاكم النظر أولا في هذا القانون وتقديم أحكامه على ماسواها من أحكام في القوانين الأخرى بوصفه النص الخاص الذي يحكم النزاع، وما عداه يعد عاماً لا تلجأ إليه المحاكم إلا في حالة خلو قانون الأحزاب من نص يحكم المسألة محل النزاع. ومع ذلك فقد سلكت محاكمنا مسلكاً أخراً حيث جعلت النص العام خاصاً، وقدمته على النص الخاص، بل أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فمن يتتبع الأحكام التي قضت بوقف صحف الأحزاب السياسية لا يجد إشارة لا من قريب ولأمن بعيد إلى قانون الأحزاب السياسية وكأن هذا القانون لا وجود له ضمن منظومة التشريعات اليمنية، ولا يقتصر ذلك على قضاة المحاكم فحسب، بل أن استقراء تلك الأحكام يبين خلو مرافعات طرفيها الادعاء والدفاع من أي إشارة إلى أحكام هذا القانون. وهنا يحق للقارئ أن يتساءل ما سر إغفال قضاة الحكم والنيابة العامة والمحامون لأحكام قانون الأحزاب السياسية، ألا يعد قانون أبرز حدث ارتبط بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية ؟ أليس قانون الديمقراطية والتعددية الحزبية؟ وهل هذا الإغفال يعد تجاهلا لأحكامه أم جهلا بها؟ والى ماذا يؤشر تجاهل أحكام هذا القانون أو الجهل بها من جانب مثلث العدالة السابق؟ نقول أنه إذا كان هذا الإغفال تجاهلا لأحكام قانون الأحزاب السياسية فتلك مصيبة، وإذا كان جهلا بها فالمصيبة أعظم.