حين انهار جزء من منزل محمد المهدي (31 عاما) في مدينة زبيد التاريخية قبل خمسة أشهر كان الأمر بالنسبة له ذروة قضيته الأولى والأخيرة منذ تخرجه من كلية الإعلام عام 2000، وليس آخر ما تتعرض له مدينته المهددة بالخروج من قائمة التراث العالمي. لقد أجبره انهيار جزء من منزله القديم الذي يتجاوز عمره 300 سنة على تأجيل زواجه الذي كان وشيكا، لكنه لم يوقف حديثه عن «إهمال متعمد» للمدينة القديمة، وفي الأسبوع الماضي كان المهدي أول من أخبرنا بسقوط 20 منزلا آخر من منازل المدينة التاريخية بسبب حفريات الصرف الصحي العميقة التي طمرتها مياه أمطار غزيرة، و«مفاجئة» كما يصفها المسؤولون. بعد انتشار الأنباء السيئة، سارع المسؤولون إلى نفيها، وقال رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية الدكتور عبدالله زيد أن 13 منزلا فقط تضررت بسبب تجمع مياه الأمطار في حفريات المجاري العميقة، وأخبرنا أيضا أنه لم يغادر صنعاء منذ وقوع الحادث في زبيد، مكتفيا بمعلومات مكتبهم هناك. مدير مكتب الهيئة هناك عارف الحضرمي أدلى بأحاديث صحفية قال فيها أن 13 منزلا تاريخيا في مدينة زبيد التاريخية لحقت بها أضرار بالغة فيما تعرض 11 منزلا آخر من المنازل المبنية على الطراز الحديث للدمار، وأوضح بأن معظم المنازل المتضررة محيطة بالجامع الكبير أحد أشهر وابرز المعالم التاريخية الإسلامية في اليمن والذي بناه محمد بن زياد مؤسس الدولة الزيادية في الربع الأول من القرن الثالث الهجري، وقال أن جميعا منازل مسجلة بكافة تصنيفاتها في قائمة التراث العالمي. أحاديث أخرى حصلت عليها «رأي نيوز» أكدت الأنباء السيئة التي ربما تفاقم وضع مدينة زبيد في قائمة التراث العالمي، وقال أمجد المزجاجي المهندس المشرف على مشروع مجاري المدينة الذي تنفذه شركة «زامير أن ترخت» الألمانية منذ قرابة عامين بكلفة مليار ومائتي مليون ريال أن عشرة منازل على الأقل سقطت، وتضرر 40 منزلا آخر. إن هذا التضارب يؤيد قصة محمد المهدي الذي ظل طيلة ليلة الحادث في 27 إبريل (الفائت) ينتظر نبأ وفاة والدته، فهي الوحيدة من العائلة التي ترفض مغادرة منزلهم المهدم معظمه منذ خمسة أشهر، وقال: «لا تريد مغادرة المنزل، وتوقعنا أن المنزل سيسقط على رأسها لتقبر فيه كما تتمنى». ورغم أن المياه غمرت جزء من المكان إلا أنها ما تزال حتى اللحظة البقاء حيث هي. رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية الدكتور زيد قال إن مكتبه في الحديدة أبلغه بأنه اجتمع مع الشركة الألمانية المنفذة للمشروع على نفقة الحكومة الألمانية، وبأن الشركة التزمت فعليا بتحمل تكاليف كل الأضرار. لكنها لن تكون تكاليف باهظة، فهو يصر بأن 13 منزلا تضررت فقط بعد أن لينت المياه التربة تحت «أساساتها الطينية الضعيفة» على حد تعبيره. المهندس المشرف على المشروع أمجد المزجاجي الذي أكد سقوط عدد من المنازل، أكد أيضا أن الشركة قررت إعادة بناء المنازل، وترميم المنازل الأخرى التي تضررت، وأجل الحديث عن التفاصيل حتى تنتهي الشركة ومكتب هيئة المحافظة على المدن التاريخية في الحديدة من مسح للأضرار بدأ فعليا. وقال المهندس المزجاجي: «الأضرار معظمها بسيطة وطالت منازل تاريخية، لكن المنازل التي سقطت ليست قديمة، وقد التزمت الشركة بتحمل كافة الأضرار». وتضاف هذه الأضرار، إلى أضرار أخرى سببها نفس المشروع الذي ينفذ منذ 21 شهرا في موسم الأمطار الماضي. وحسب المزجاجي، فإن الشركة المنفذة كانت تحاول تلافي ما حدث العام الماضي، وأنها سرعت وتيرة العمل لتجنب موسم الأمطار، مؤكدا أن الأمطار التي هطلت بغزارة مؤخرا لم تكن متوقعة، ولم تأتي في موعدها. بالنسبة لمحمد المهدي وغيره من مواطني زبيد الذي تجمعهم صفة الفقر وتحدثوا ل«رأي نيوز» فإن ما تعرضت له مدينتهم مؤخرا ليس سوى جزء بسيط «لإهمال الدولة»، فالمباني تتهاوى بسبب البالوعات التي تحفر بالقرب من المنازل القديمة والتي لم يتخلص منها مشروع المجاري الجديد، والأمطار أيضا، بالإضافة إلى غياب أية برامج لترميم المباني القديمة بعد منع المواطنين من هدمها واستحداث مباني أخرى، وبسيطة. وقال المهدي أنه بعد سقوط جزء من منزله منع من إعادة بناءه إلا حسب مواصفات هيئة المحافظة على المدن التاريخية التي تقتضي إعادة المنزل كما كان في السابق وبنفس المواد، وأضاف: «سيكلفني إعادته كما يريدون مليون ونصف مليون ريال، فيما لو هدمته واعدت بناءه من الطوب وبشكل شعبي لن تصل التكلفة إلى 300 ألف ريال». وكل المساعدة التي سيحصل عليه المهدي من الجهات المسئولة هو قرض بقيمة ألف دولار (190 ألف ريال) من صندوق الطوارئ التابع للهيئة، وسيكون عليه تسديد المبلغ على أقساط لثالثة أعوام، وقال: «قررت تركه، وكل ما يقلقني عناد والدتي فهي ترفض مغادرة المنزل». ويشكك المهتمين بمدينة زبيد في جدية الحكومة لحماية المدينة من الدمار، فكل ما قامت به منذ تلويح اليونيسكو منتصف العام الماضي بإقصاء المدينة من قائمة التراث العالمي هو تنظيم ندوة بعنوان «الحفاظ على المدينة التاريخية» التي عقدت في ديسمبر الماضي وحضرها مدير مركز التراث العالمي في اليونسكو الدكتور فرانسيسكو بندرين.. لكن المسؤولين يؤكدون أنهم يبذلون قصارى جهودهم لحماية المدينة، وحسب الدكتور زيد فإن مشروع تنفيذ المجاري هو الخطوة الأولى، وأنه يتم تنفيذه بناء على توصيات الهيئة والخاصة بالحفاظ على معالم المدينة، وقال: «انتهينا مع وزارة التخطيط من وضع المخططات وتحديد الأماكن المسموح بالبناء فيها، وتحديد الأماكن البناء فيها لحماية المدينة، ونعمل على إعداد مشروع لإعادة ترميم مباني زبيد». وكانت منظمة اليونسكو جددت تحذيرها للسلطات اليمنية أواخر العام الماضي بإسقاط مدينة زبيد من قائمة التراث الإنساني خلال ثلاثة أشهر ما لم تتخذ إجراءات سريعة وعاجلة لإنقاذ ما يمكن من معالم وآثار المدينة المسجلة ضمن المواقع الأثرية العالمية المهددة بالخطر، ووصفت تحذيرات اليونسكو يومها بأنها جدية وشديدة اللهجة. وفي دراسة لمختصين في مركز التدريب العالمي أجريت عن المدينة تم التأكيد على ضرورة أن تقوم الحكومة اليمنية باعتماد قرابة نصف مليار ريال كخطوة أولى في أعمال الترميم والصيانة للمنازل والمواقع الأكثر تضرراً. وتقع مدينة زبيد على مرتفع متوسط بين واديين هما وادي زبيد من الجنوب ووادي رمع من الشمال، وجميعهما يقع على بعد 100 كلم جنوب مدينة الحديدة في الغرب اليمني. وحسب المركز الوطني للمعلومات فإن البعثة الأثرية الكندية التي عملت في المدينة برئاسة الدكتور أدوارد كيل بين عامي 1982 و84 م عثرت على أدلة تؤيد ما أوردته مراجع تاريخية بشأن اصل المدينة التي كانت قرى لقبيلة الأشاعرة التي ينتمي إليها الصحابي «أبو موسى الأشعري» قبل أن يقوم «ابن زياد» بتخطيط المدينة ذاتها بالقرب من جامع الأشاعرة عام 204 هجرية، 819 ميلادية. كما عثرت البعثة على مواقع أثرية متناثرة في أرجاء المدينة أهمها الموقع الأثري في الجهة الشمالية للمدينة يعرف بمنطقة القصر ووجدت فيه لقا أثرية يعود تاريخها إلى ما قبل القرن الثالث الهجري، وبعضها إلى العصر الحميري، والبعض الأخر إلى العصر الحجري. وتزخر المدينة التي ضلت لفترة طويلة محطة علم ومدرسة دينية ذائعة الصيت بعدد من التحف المعمارية الإسلامية القديمة.