يكاد لا يمر يوم إلا ونشهد تفاصيل حدث استقوائي تغيب فيه أبسط ميكانيزمات الدولة وتختفي من مشاهد الحدث صور المدنية والقانون والدستور.. هذا التجاوز اليومي للدولة ووظيفتها وهياكلها أصبح من الأشياء الروتينية التي ترافق سير الأمور في بلادنا، حتى وجدت لها قبولاً في الذهنية والعقلية لرجل الشارع العادي، بل إن تعزيزات هذه الصورة المشوهة للكيفية التي يتعايش فيها المواطن مع الدولة تتجدد و تتكثف بشكل أعمق يومياً حتى يخال للجميع بأن الدولة هي وظيفة شكلية وثانوية بل وحمائية لتلك السلوكيات الاستقوائية المفرطة في ابتذال الدور الحيوي للدولة وامتهان مقرف لهيبتها ووجودها.. ولن يفاجئك وأنت تمر بأحد الشوارع أو تنصت لأحاديث المواطنين أن تسمع عبارات تدلل عن هذه الوضعية كالقول «إن دولتنا دولة مصملية» أي لا يمكن تعيش فيها كإنسان يحترم الدستور والقانون وتحترم مكانة الدولة وهيبتها فإنك إذا اتصفت بهذه الصفات (صفات المواطن الصالح) فأنت جعلت نفسك رهينة لكل من يمثل الدولة بأن يبتزك ويستغلك ويُعقّد كل معاملاتك وترفض كل مطالبك وإهدار دائم لحقوقك كمواطن وكإنسان، لكن إذا ما تعاملت «بالصميل» بالقوة فأنت حتماً ستوجد لك موطأ قدم في هذه الدولة كمواطن.. ناهيك عن سماعك لعبارات أخرى كالقول «دولة بمائة ريال» أو «دولة هرجلة» ويقصد به دولة غياب النظام والقانون.. هذه الأقوال وغيرها لم يكن حضورها في ذهنية المواطن بمحض الصدفة أو ردة فعل تجاه مواقف زمنية بحد ذاتها، إنما أتت من ثقافة عامة يعيشها المجتمع اليمني ترتكز على الغياب الحقيقي والدلالي لمفهوم النظام والقانون في الدولة اليمنية المعاصرة وكتفاعل حقيقي مع تعاظم الأفعال والسلوكيات الخارجة عن القانون أو ما يطلق عليه السياسيون قانون القوة وغياب قوة القانون والتي أرسى مداميكها استباحة مراكز القوى والمتنفذين ومعظم دوائر النخب والفئات القريبة من القرار التي دأبت على تسخير الوجود الفعلي لدور الدولة ووظيفتها لخدمة مصالح هذه القوى، إضافة إلى التحايل المفضوح على طبيعة الدور القانوني والتشريعي والدستوري بحيث أصبح تفعيل هذه القوانين لا يكون إلا على فئة من المواطنين لا تمتلك أي قوة ووجود في وجاهة الدولة والمفتقرة للدعم الغير مرئي كالوساطة والمحسوبية والمجاملات وهي الحبال التي تلف انشوطتها حول رقبة القانون والممتدة إلى دهاليز مصالح مراكز القوى والشخصيات المتنفذة ونخب القرار.. إن المتتبع للأحداث المؤسفة التي شهدتها معظم مدن وقرى بلادنا خلال الأشهر الماضية، سيجدها تندرج تحت إطار تلك الثقافة الاستقوائية والتغييب الكامل لسلطات الدولة، إلا أنها حضرت بصورة أكثر بشاعة وقذارة وبمشاهد فوضوية وعبثية لا يقبلها العقل ولا يستسيغها أي نظام تم وضعه حتى تحت الانهيار، أعطت إيحاءات سلبية عن الدور المتفاقم والمتعاظم للثقافة الاستقوائية التي خرجت عن طور قيمها المعتادة لتتوسع دوائرها حد الاستفزاز والاستهانة ليس بالدولة والقانون فقط بل وبكافة القيم والأعراف المجتمعية والقبلية والإنسانية والدينية، فالقتل الوحشي والاعتداءات على المحرمات والاغتصابات والاستيلاء على الأراضي و التنكيل بانتهاك حقوق الضعفاء بطريقة أشد قوة وهمجية من سلوكيات حيوانات الغاب، لهي من الأفعال التي هزت الضمير الإنساني ونبهت إلى أين تسير بنا التراكمات السلبية لفقدان هيبة الدولة وتجاوزها بدون معوقات والاستئثار بوظيفة الدولة وسلطاتها لحماية تلك الأفعال الخارجة عن القانون.. إنه تهديد حقيقي للوئام والسلام الاجتماعي وحكماً بالإعدام على كل مرتكزات الحضارة المدنية وعوامل بقاء الدولة والمواطنة السوية بما يؤكد الحقائق التي يحاول البعض تغييبها على واقع حياتنا وهي اختفاء العدالة والديمقراطية والتنمية الشاملة من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والإنسانية في اليمن، وهي شواهد راسخة على هشاشة الدولة وضعف وجودها القانوني والسلطوي وسيطرة كاملة لقانون القوة و الاستقواء كوسيلة وحيدة للتعامل وبديلة للنظام والقانون والدولة..