تبقى حياتنا أسيرة للسلوكيات الغير مدنية والتي تحيط بنا كالتفاف السوار على المعصم.. أرسى اليمنيون دعائم الدولة العصرية الحديثة ذات التوجه المدني منذ ما يقارب ال50عاماً، وأفردوا في صفحات التاريخ الحديث سطور الملحمة النضالية التي قادها الثوار والرجال الأحرار والمقاومين الأبطال ضد الاستبداد والكهنوت في صنعاء وطرد المستعمر البغيض من عدن، فاستعاد الشعب اليمني كرامته وحريته واسترد وجوده الحضاري بين الأمم، وكان الطموح إرساء دولة النظام والقانون دولة المواطنة المتساوية ودولة الحرية والتقدم والحداثة، وهو ما رفع شعاره الشعب اليمني بكل فئاته حضراً وريفاً، إلا إن الواقع يقول بعد ما يقارب ال50عاماً، بأن الطموحات المشروعة في بناء دولة الدستور والمؤسسات ما زالت في حجيرات الأحلام ورهينة للإرادة السياسية التي أبت أن تخرجها إلى الواقع. القتل الطائش وإزهاق الأرواح والانتهاكات اليومية بحق المواطن وإهدار لكرامته الآدمية وسيادة الفوضى والعبثية في دهاليز مؤسسات الدولة المفتقدة لكل معايير وتوصيف وظيفتها ودورها في إدارة البلاد، هذه بعض الصور التي ارتسمت عميقاً في واقع البلاد ولعل أبرز ما يخيف الجميع ويتوجس منه المراقبون ويترقبه معظم المواطنون هو اختفاء كامل لحقيقة الدول التي تتعمق في هياكلها حالات الضياع والاختفاء والتهميش لدور المؤسسات وسقوطها أسيرة لأجندات المصالح الخاصة لمراكز القوى والمتنفذين وأباطرة الفساد الذين لا يألون جهداً لإسقاط مشروع دولة المؤسسات بالضربة القاضية، وإبقاء الوطن في دوامة الوجود واللاوجود لوظيفة الدولة أمام المجتمع لتوسع معها مساحات الاستقواء والتطاول على القانون والدستور والهيمنة على مداخل ومخارج المؤسسات القانونية والتشريعية، وخلق واقعاً جديداً لدولة في ظاهرها تضم هياكل ووظائف وأجهزة تؤدي وظيفة خدمة وحماية الشعب، بينما في جوهرها لا تستمد هياكل المؤسسات وأجهزة الدولة إلى وجود حقيقي، وتخضع لسيطرة قوى متفردة و متنفذة تسيرها كما أرادت وتوجهها صوب خدمة مصالحها. إن المشاهد اليومية لغياب القانون والتجاوزات التي تتخطاه أصبحت من الصور الثابتة في حياة اليمنيين، اختفت معها معايير الثقة بين الحكومة والمواطن، فعندما تعلن الحكومة عن استحداث قانون ما في أي قضية يعيشها ويعاني من مآسيها اليومية المجتمع، فإن ردات فعل المواطنين هو عدم إعطاء أي مصداقية لهذا الإعلان الحكومي، ولليمنيين تجارب كثيرة وعديدة مع سياسات الإعلانات الرسمية فمن الإعلان عن الإصلاحات داخل مؤسسة الخدمة المدنية وغيرها من الجهاز الإداري للدولة، لاستئصال أمراض الفساد من رشوة واختلاسات وبيع وشراء بالوظائف وعبث فاضح بالمال العام وبموارد البلاد، إلى عمل وإنشاء مؤسسة لمكافحة الفساد تقوم بمهام مسنودة لمؤسسة ما زالت حاضرة في هيكلية الدولة وهي الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والتفتيش، والتي افتقدت للفعل الرقابي والمحاسبي بعدما أكتفت بإصدار تقاريرها «الانتقائية» ورفعها إلى الجهات المعنية بالضبط و الإلزام، ومع تعدد صور المنع والمكافحة وتجفيف الفساد واعتماد برامج إصلاحات سنوية إلا أن الفساد وملوك الفساد ما زالوا يحققون تنامياً مشهوداً في فسادهم وربما أكثر من قبل. هذه الظاهرة وغيرها أوجدت لدى الغالبية العظمى من اليمنيين شبه قناعات بأن طموحات الآباء المناضلين قبل نصف قرن يخلق دولة عصرية مؤسساتية ودولة النظام والقانون قد كانت طموحات خيالية بعد أن أثبتت السنوات والأيام بأن المتربصين بوأد الأحلام ببناء دولة عصرية قد نجحوا في تأسيس دولتهم، دولة الفوضى والعبثية، ومملكة الفساد وأحلام المتنفذين ومراكز القوى.