هل نحن نعيش زمن فقدان الإحساس بحقيقة وجودنا كأفراد وككيانات ومجتمع ودولة؟.. إن المطالع لطبيعة المشاهد الحياتية دون التعمق في تفاصيلها لن يدهشه بلورة عناوين البلادة تقفز فوق كل مشهد؟! نعم البلادة بسطحيتها وجمودها وحمقها وغبائها وافتقاد الإحساس الإنساني في تعامل الفرد مع إمكاناته وقدراته وطاقاته وكذا التعامل البيني بين الأفراد ومكونات المجتمع ومفردات الدولة.. حتى يُخيل لمن بقي في عقله الحوار الفكري بأن رؤية الحياة بشكلها التكاملي من الأمور المنقرضة لدى معظم الكيانات البشرية والاعتبارية في هذا البلد.. للإجابة على السؤال الذي استهللت به المقالة. يكفي أن يبحث كل مواطن يمني في مكنوناته وأقصى بنود طموحاته أين نتوقف وإلى أي اتجاه نسير وهل وظف ما وهبه الله من إمكانات لتعمير الأرض.. وعندها ستطِل عبارات الإجابة القاسية والتي لن تخرج عن تسخير كل عطاءاته للدوران في جزئيات إشباع الاحتياجات المادية بأقل معطياتها، وبات الوجود الحقيقي للفرد فقط بالحصول على مؤهل علمي خالٍ من أي نكهة علمية والبحث عن وظيفة أو فرصة عمل أقرب إلى السخرة، ولن يقترب البتة من أجواء الإبداعات الخلاقة واستغلال القدرات الإدراكية والحسية لتحقيق إنجازات (اختراعات) إنسانية ترتقي بحياة الإنسان بقدر البقاء في حدود متاهات العيش لليوم والتكور العقلي والعاطفي لتشتيت وجبات القلق والاكتئاب والحيرة للبقاء في دائرة الحياة ليوم غد.. وهكذا انعكست هذه الآلية البليدة على مفردات الواقع لتطفو على السطح مجتمعات وكيانات تلهث كثيراً خلف ستر عورات الجوع والكفاف والعوز لتتعمق ثقافة الركض خلف «الحاجة» في تفاوت مقدار وكميات هذه الحاجة بين فئات المجتمع. لن نبالغ إذا اتفقنا مع لغة الأرقام ومؤشرات الإحصائيات التي تؤكد على أن الإنتاج الحقيقي للمواطن اليمني لا يتعدى معشار إنتاج مواطن آخر في أي بلد فقير، وأن مجمل إنتاج بلد بمساحة نصف مليون وخمسين ألف كم مربع وما يفوق العشرين مليون نسمة لا يساوي (مع التفاؤل) إنتاج أصغر شركة من شركات صناعة السيارات العالمية وربما «كراجها».. لا غرابة أن تبقى تطلعاتنا فقط محصورة بإبقاء حياتنا المنكسرة ومشاهدها الهشة في مساحة الأمان والابتهال إلى المولى القدير ليلاً ونهاراً بأن يجنبنا المصائب وغوائل الدهر.. ولا غرابة أيضاً أن تتخذ مشاهد حياتنا اليومية على بساطتها وبلادة محتواها طبيعة الصراع الإنساني ومسلمات الضحية والمفترس واشتراطات البقاء أو الفناء.. لذلك لا حاجة لأن نشغل عقولنا بالتفكير وعصف الذهن وطرح الأسئلة والاستفسارات عن كل ما يدور حولنا، سواء في علاقات المواطنين مع بعضهم أوفي علاقات المجتمع بالدولة أو غياب هذه العلاقة أو حتى مراجعة طبيعة القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وليس من المستغرب أن نهلل لوجود فاسد على رأس هرم مؤسسة أو مرفق أو أي جهة سلطوية وبقائه يعبث بكل مواردنا وأفكارنا وينشر الفوضى والعشوائية كثقافة حاكمة لا تقبل التغيير الذي بتنا نخشاه أكثر ما نخشى ضياع فرصنا الضئيلة بالبقاء أحياء.. حتى أصبحنا نعيش كقطيع حيواني فاقد الإدراك بحقيقة وجوده بعد أن غدت سمات حياتنا ومشاهدها ترتسم بدون ذاكرة..