باختلاف طبيعة وعمر الديمقراطية التي تتمتع بها الشعوب الغربية فإن المسلك السياسي لممارستها لم يكن هو المشهد الأبرز الذي منحها صفة التفوق، بقدر مظاهر تجليها في مساعدة المجتمع، وتحرير الفرد من الكثير من الأعباء التي تفرضها تحديات الحياة اليومية، وكان يواجهها بمفرده.. وهو الأمر الذي جعل الفرد رهان التغيير الأول، وهدف كل الممارسات الديمقراطية في آن واحد. ومن ذلك البُعد الفلسفي اختزلت الشعوب الغربية تنظيماتها السياسية في حزبين أو ثلاثة مقابل عشرات آلاف المنظمات والجمعيات والمراكز والنقابات المصنفة تحت مسمى «المجتمع المدني» والتي تتعدد بأنواعها وتتوحد في أهدافها من حيث كونها جميعاً تسعى لتعزيز الحقوق الإنسانية. في تجاربنا العربية اتخذت الديمقراطية مسلكاً منحرفاً طغت عليه الصبغة السياسية إلى الدرجة التي ضاعفت من أعداد الكيانات الحزبية، وأوجدت حالة صراع غير مسبوقة، بل واستغلت حتى فرص قيام مؤسسات مجتمع مدني في إيجاد آلاف المنظمات والجمعيات والنقابات الحقوقية المسخرة لخدمة الصراعات السياسية، لتضيف بذلك انتهاكاً جديداً وسافراً للحقوق الإنسانية تسبب في تعقيد مشاكل الفرد والمجتمع. إن هذه الحالة، وإن تفاوتت بحدوثها من بلد لآخر، لكن ظهورها القوي في اليمن يلقي بالكثير من تبعاتها على عاتق البلدان الغربية الداعمة للديمقراطية في بلدان العالم الثالث، ويكشف أنها لم تكن مخلصة في نقل تجاربها لشعوبنا، إذ أنها أولت النشاط السياسي جل اهتمامها، ودفعت بالمنظمات المدنية اليمنية إلى أتون هذا المجال، بحيث إن هذه الدول لايمكن أن توافق على تمويل برنامج أي منظمة يمنية ما لم تكن هذه المنظمة ذات باع وتأثير في حراك القوى السياسية المعارضة لسياسات الدولة. كما أن المنظمات الدولية الناشطة في اليمن حتى وإن تنوعت باختصاصاتها، لكنها أيضاً تنتقي أنشطة مرتبطة بالحياة السياسية أو توجهها هي بذلك الاتجاه، متجاهلة أهمية الرهان على قدرات الفرد، والدور الذي يناط بها في مساعدته، وليس استخدامه كأداة ضغط سياسي لبلوغ أهداف تخدم طرفاً ثالثاً.. كما أن المنظمات الدولية، وحكوماتها لم تدعم إطلاقاً الجانب التخصصي للمنظمات اليمنية، بل إنها أسهمت بشكل مباشر في نشر وتعزيز فوضى المجتمع المدني من خلال تشجيع أو دعم منظمات ذات تخصص بشئون الطفل أو المرأة أو الإعلام أو غيرها على تنظيم فعاليات ذات صبغة حزبية بحتة، وتبني قضايا لاتمت بأية صلة لنظامها الأساسي بقدر ما هي إحدى حلقات الصراع بين السلطة والمعارضة. إن هذا التوجه الواضح للدول الداعمة لديمقراطيات العالم الثالث ومنظماتها فرض على معظم المنظمات اليمنية تعديل برامجها، وإعادة توجيهها سياسياً ليتسنى لها الحصول على التمويل ومواصلة البقاء في ساحة المجتمع المدني، الأمر الذي حرم اليمن الكثير من الفرص التي كان بوسع المجتمع المدني تقديمها وتحسين الواقع الإنساني للمجتمع، وتخفيف بعض الأعباء عن الدولة كما هو حال ما يجري في دول الديمقراطيات الراسخة. لقد كان هناك استغلال مفضوح لانخفاض وعي الساحة الشعبية بمفاهيم التنمية الديمقراطية، وكذلك استغلال تهاون سلطة القانون التي بإمكانها محاسبة المنظمات المخالفة للوائحها الأساسية، واستغلال لتدني تجارب الساحة الوطنية بمناهج العمل الحزبي التعددي... رغم أن ذلك لايلغي حقيقة وجود منظمات دولية تقدم خدمات جليلة لليمن بعيداً عن أية حسابات سياسية. اعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من الوقت حتى نستوعب كيف نستفيد من الديمقراطية في تنمية حياتنا وخدمة مواطنينا، قبل أي تفكير بخدمة هذا الحزب أو ذاك.