تجد العديد من الأنظمة السياسية العربية صعوبة كبيرة في بحث خيارات التحول الديمقراطي من غير أن تقترن الفكرة لديها بمحاذير أمنية مخيفة ، تؤكد من خلالها أن الإشكالية عندها ليست في الفلسفة الديمقراطية بحد ذاتها ، بل في أن تتحول بعض ممارسات الديمقراطية إلى صيغ خرق صريح لاستراتيجياتها الأمنية ، وثوابتها الوطنية. هناك ما تبرر به تلك الأنظمة قلقها الكبير من الانفتاح ديمقراطياً ، إلا أنها لاتجد ماتقوله عندما يجري الحديث عن تجارب دول مثل فرنسا ، والمانيا ، وبريطانيا ، وتركيا ، وغيرها ممن وصفوا بدول الديمقراطيات الراسخة !! والسؤال هنا : ياترى ماطبيعة العلاقة القائمة بين الديمقراطية والحالة الأمنية للدولة ؟ وكيف يمكن فهم ذلك في إطار التجربة اليمنية !؟ بدراسة دقيقة للتجربة الديمقراطية في اليمن ستقف أمام أحد أهم أركان تأمين البناء الديمقراطي الذي ينبغي لأي تجربة عربية البدء منه ، والذي في نفس الوقت يفسر أسباب الفوضى والانهيار الأمني الذي رافق التجربة العراقية ألا وهو خصوصية التجربة وواقعيتها المتصلة بمفردات الحياة السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والثقافية اليمنية. فكما هو معروف أن الدستور اليمني حتى نهاية السبعينيات كان يحرم الحزبية في المادة «37» منه ، وكان لذلك التغيب الديمقراطي اثر سلبي على الساحة السياسية اليمنية التي انهارت أمنياً بفعل الفراغ السياسي ، وغلبتها صراعات القوى الوطنية المختلفة ، والتيارات الفكرية النازحة من أقصى الشرق ، ثم العنف الدموي الذي أصبح لغة الخطاب المتداول بين الجميع. وإزاء واقع كهذا كانت مسألة إدراك العلة وحدها لاتكفي ، مالم يصاحبها وعي بأدوات الخروج من المأزق ، وهي الخلاصة التي استنتجها الرئيس علي عبدالله صالح بعد تسلمه زمام الحكم 1978م وعرف أيضاً أنه مطالب بتحول ديمقراطي يصبح بمثابة الخيار الأمني الأفضل لاستقرار اليمن ، فكان مشروع «الميثاق الوطني» ثم المؤتمر الشعبي العام وقبلهما توسيع عضوية مجلس الشعب التأسيسي وزيادة صلاحياته ، وكذلك تشريع حق المرأة في الانتخاب والترشيح وغيرها في باكورة المشروع الديمقراطي ، ولكن الرئىس علي عبدالله صالح لم يطلق التعددية الحزبية آنذاك واكتفى بالتعددية السياسية لأنه لم يكن يريد القفز على الواقع واستنساخ تجارب دول أخرى ليست بنفس ظروف اليمن السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية ، كما أنه تطلع أولاً إلى ايجاد البنى المؤسسية والتشريعية ، وتنمية الكوادر السياسية الوطنية ، وتطوير تجاربها.. ومن هنا تنامت الاتحادات ، والنقابات ، والجمعيات وتعددت التجارب الانتخابية إلى أن تحققت الوحدة اليمنية وتم التحول إلى التعددية الحزبية. إذن لم يتعارض الخيار الديمقراطي مع الحالة الأمنية في اليمن ، بل كان أهم أسباب استقرار اليمن في تلك الفترة ، وتوحيد صفوفها الوطنية ، وتمكين الشعب اليمني من إعادة تحقيق وحدته ، وربما ما كان الأمر ليصبح كذلك لولا أسلوب التدرج في العمل السياسي والتحول الديمقراطي ، ولولا احتفاظ الفكر السياسي للدولة بهويته الثقافية اليمنية ، ورفضه استنساخ قوالب ديمقراطية جاهزة قد تكون مثالية في موطنها إلا أنها قد تصبح الخيار الأسوأ لليمن. إن مانريد قوله هو أن الديمقراطية لايمكن أن تصبح عبئاً ، أو خطراً أمنياً إلا إذا مورست ضمن بيئة غير متوافقة مع ابجدياتها السياسية ، أو إذا جردها البعض من قيمها الاخلاقية ، وغاياتها الإنسانية ، وجعلها موضع رهاناته الضيقة ، ومصالحه الخاصة التقاطعة مع المصالح العامة. يعتقد البعض أن مايدور في اليمن من جدل بشأن حريات الصحافة ، أو حقوق الإنسان ، أو حول قضايا يثيرها مجلس النواب ،وحتى فيما يتعلق بحديث البعض عن الاستقواء بالخارج وغيرها ، هي مؤشرات «سوء الخيار الديمقراطي» ومصادر القلق الأمني الذي ينتاب عدد من الأنظمة السياسية ويمنعها من التحول الديمقراطي .. إلا أن اعتقاد كهذا يبدو بليداً في ظل تجاهله لحقيقة المخاض الذي تتطلبه أية ممارسة انتقالية في أول عهد تحولها خاصة عندما يتعلق أمرها بأسلوب تفكير وحياة المجتمع كاملاً ، وجميع أجهزته الحكومية ، ودوائره السياسية. إن التحول الديمقراطي في مختلف ارجاء العالم لابد أن تعترضه الكثير من تحديات الواقع الذي يحدث في بيئته ، والتي في مقدمتها المعارضون للديمقراطية نفسها.. فعلى سبيل المثال عندما نراجع تاريخ التحول الديمقراطي في اليمن نجد أن الدعوة إلى حريات المرأة ، وتمكينها المهني والسياسي واجهت في بداية الأمر معارضة شديدة من التيارات الإسلامية ، ومازالوا حتى اليوم يعيقون أي توجه جاد لمنحها «الكوتا» وهؤلاء المعارضون يدافعون عن موقفهم من خلال الهروب منه إلى أسلوب فتح جبهات خلافية متعددة على محاور أخرى ليشغلوا الرأي العام عن موقفهم غير الديمقراطي. وعلى صعيد آخر ترى بعض الصحافيين يحاولون استغلال مساحة حريات الصحافة بكتابات كثيراً ماشذت عن أخلاقيات المجتمع بقصد لفت الانتباه ، أو ابتزاز الجهة المستهدفة ! وقد تأتي بعض منظمات المجتمع المدني بفعل مماثل ، أو تدعو إلى ممارسات غير مسئولة ، فيما يعرض أصحابها أنفسهم في أسواق المزايدة لكل من يدفع أكثر ! فذلك كله لم تأت به الديمقراطية بقدر ما كشفته ! باعتقادي أن الديمقراطية في اليمن رغم مايردده البعض من نقد تحقق تقدماً سريعاً ، فالوضوح السياسي الذي تتعامل به القيادة السياسية داخلياً وخارجياً جعلها آمنة من أي خوف قد يقلق آخرين من كشف الملفات .. أما الصراحة التي تتناول بها الهموم الوطنية فإنها اقصتها عن أي إحراج قد يتسبب به تداول تلك الهموم من قبل المعارضين. إن النظام السياسي في اليمن يثق بنفسه ، وخياراته ، لذلك فهو يثق بتجربته الديمقراطية ، ويعتمد على ممارساتها بشكل كبير في رهانه الأمني الذي انتصر فيه على الإرهاب والتطرف ، وأعمال الخطف ، والنزاعات القبلية ، والثأر ، والفتن المذهبية ، والخلافات الحدودية ، وتهريب الأسلحة ، والمخدرات والأطفال.. وعلى معدلات الجريمة أيضاً.