عادة يستقيم شأن التحولات الديمقراطية إذا ماجرت في اتساق مع حماية دستورية وقانونية، في حين ظلت العديد من دول الديمقراطيات الناشئة في البلدان النامية تعتمدعلى تراثها الثقافي وقيم مجتمعاتها في تأمين الحماية المناسبة لتجاربها الديمقراطية الوليدة. لعل القراءة المتأنية للتجربة الديمقراطية في اليمن تكشف أن فترة التحول إلى التعددية الحزبية لم تكن قرينة دولة مؤسسية بقدر ما رافقت حالة وحدة اندماجية بين شطري اليمن، وبالتالي فإن من المستبعد أن يكون رهان صانع القرار على حماية قانونية أكيدة للديمقراطية، وإنما بدرجة أساسية على حماية يكفلها التراث الثقافي والقيم الأخلاقية والدينية للمجتمع، وهو ما حدث فعلاً على مدار حقبة التسعينيات على وجه الخصوص. إلاّ أن ما حدث لاحقاً هو أن المجتمع اليمني شهد انفتاحاً هائلاً وسريعاً، رافقه تنامي خبرات وتجارب التحول الديمقراطي، والتأثر الكبير بالثقافة الانفتاحية المصدرة من شتى أرجاء العالم، في نفس الوقت الذي لم يحدث تطور كبير ومهم على صعيد ترسيخ قوة القانون الذي تعول عليه الدول المؤسسية في كبح جماح أي ممارسات متهورة أو خاطئة للديمقراطية. ومن هنا فإن اختلالاً واضحاً بتوازنات «أمن الديمقراطية» قد بدأ يفرض حساباته على وقائع الأحداث اليومية لساحة الحراك الوطني، والذي ترجم نفسه بشتى المظاهر التي شهدتها المحافظات الجنوبية، أو تلك التي تشهدها العاصمة من حين لآخر، مثيرة صخباً كثيراً. لاشك أن فقدان بعض توازنات الديمقراطية لم يحدث صدفة، بقدر ما عكس واقعاً يمنياً عاماً.. فحجم التحديات التي واجهتها الدولة اليمنية على مّر أعوام الوحدة السبع عشرة تسببت بتعطيل بعض برامج التحول للدولة المؤسسية - دولة النظام والقانون - وبالمقابل فإن الانفتاح السريع أحال دون حفاظ المجتمع على رهاناته التراثية الثقافية، وقيمه الأخلاقية، فكان أن جنحت بعض قواه السياسية إلى ممارسات طائشة، أو متهورة وأحياناً خطيرة دون أن تجد نفوذاً قانونياً رادعاً، أو وازعاً ثقافياً وأخلاقياً ضابطاً. ولم يقتصر هذا على القوى السياسية الوطنية، بل تعداه إلى الأفراد، إذ وجد البعض في هذه الظروف فرصته الذهبية ليمارس الابتزاز السياسي، واللعب بمقدرات الوطن لصالح قوى خارجية.. وأحياناً لمجرد حب الظهور على ساحة الأحداث. إذن فاليمن ليس أمامها لحماية تجربتها الديمقراطية سوى تعزيز سيادة القانون والدستور بشتى الوسائل - بما فيها الردع بالقوة - طالما والدولة غير قادرة على العودة بثقافة المجتمع وقيمه الأخلاقية إلى سابق عهده، الذي يعيب على أي فرد الحديث عن «الاستعانة بالخارج»، أو كتابة التقارير لأعداء وطنه، أو المساومة على الثوابت الوطنية، أو المساس بالوحدة اليمنية، على غرار ما هو حاصل هذه الأيام. فالدولة اليمنية غير متاح لها بدائل وخيارات متعددة لكي تستهلك الوقت في التفكير بها، وتفاضلها على بعضها، وإنما هو خيار واحد في ترسيخ دولة النظام والقانون، وعدم التفريق بأي حق أقره الدستور والقوانين النافذة مهما كان حجمه، أو حجم المنتهكين له.. وأعتقد أنها ليست بالمهمة المستحيلة أو الرهان المعجزة بقدر ماهي إرادة سياسية على ذلك، وعلى الضرب بيد من حديد لكل من يضع نفسه فوق القوانين والأنظمة، وبخلاف ذلك فإن الديمقراطية ستكون في خطر، وكذلك الوطن سيكون بخطر أعظم.