أضحت ظاهرة القرصنة البحرية، التي برزت مؤخرا في المياه الإقليمية قبالة شواطئ خليج عدن، مشكلة تهدد ما يقارب 70 بالمائة من حجم التجارة العالمية التي تمر من خليج عدن إلى باب المندب باتجاه قناة السويس. فهذه الظاهرة التي ألقت بضلالها الكارثية على ميناء عدن أولا وأفقدته أهميته التي كان قد بدأ باستعادتها ثم أصبحت هما يؤرق مضاجع كافة الدول حتى الكبرى منها، والتي سارعت إلى إرسال أساطيلها البحرية الكبيرة لمكافحة هذه الظاهرة، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من معرفة أسباب بروزها ونشوئها وتطورها بهذه السرعة. فالكثير من السفن الحربية والبارجات العملاقة لدول كبرى مثل: روسيا والولايات المتحدة وغيرها من دول أوربا العظمى وشرق آسيا واستراليا تنتشر في المياه الإقليمية قبالة خليج عدن، مع ذلك ما زال القراصنة الصوماليون يختطفون باخرة تلو الأخرى، ولم تتمكن تلك البوارج الحربية إلا من القبض على بضعة عشر قرصانا وتم تسليمهم لليمن ويجري حاليا محاكمتهم. أضرار للصيادين وللاقتصاد: أول وثيقة حكومية صدرت في يوليو الماضي حول هذه الظاهرة، قالت: إن نحو 200 مليون دولار هي خسائر الصياديين اليمنيين منذ بدء هذه الظاهرة التي تسببت بوقف الاصطياد في بعض المناطق بخليج عدن. وأكدت الوثيقة أن اليمن تكبّدت خسائر عديدة أهمها: رفع تكاليف التأمين على السفن مقابل التأمين ضد القرصنة، ومن ضمنها السفن التي ترتاد الموانئ اليمنية، كما تحمّلت اليمن -رغم محدودية إمكانياتها- أعباء في حماية الخطوط البحرية التجارية وإجهاض عدد من محاولات القرصنة، بالإضافة إلى ما تتحمّله من استضافة ما يقرب من 700 ألف لاجئ صومالي على أراضيها. وذكرت الوثيقة أن اليمن تحمّلت أيضا أعباء الجاهزية الإضافية للقوات البحرية وخفر السواحل اليمنية والبنية التحتية المتمثّلة بإقامة المراكز الأمنية على طول الشريط الساحلي، وشراء زوارق بحرية، وتجهيز فروع الهيئة العامة للشؤون البحرية في الحفاظ على البيئة البحرية والبحث والإنقاذ وتركيب نظام المراقبة لحركة السفن وبناء مراكز تدريب وتجهيز العناصر الأمنية، وغيرها والتي بلغت تكاليفها أكثر من 150 مليون دولار، بالإضافة إلى نفقات بتمويل حكومي ذاتي؛ كون المساعدات الدولية المقدّمة في هذا الجانب ما زالت ضئيلة حتى الآن. إحصائيات رسمية: وبحسب الوثيقة التي أشارت إلى استمرار تصاعد أعمال القرصنة، فإن عدد الحوادث التي سجّلت خلال العام الجاري حتى شهر مايو الماضي بلغت 126 حادثة، منها: 29 سفينة تم اختطافها واحتجاز 472 بحاراً أخذوا كرهائن، واحتجاز 40 مشتبهاً به من القراصنة الصوماليين لمحاكمتهم في اليمن "دون اعتماد تكاليف ذلك من الجهات الدولية". وأشارت إلى أن حوادث القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية وخليج عدن والبحر الأحمر بلغت الذروة في عام 2008 لتصل إلى 111 حالة، منها: اختطاف 24 سفينة واحتجاز 815 بحّاراً. وسجّلت أوّل حادثة قرصنة في خليج عدن عام 1995 ثم ازدادت بشكل ملفت للنظر خلال الأعوام 2004- 2006، وزادت في العام 2007. تحركات دبلوماسية: ولاحتواء هذه المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة لها فقد سعت بلادنا من خلال مشاركتها في عدد من المؤتمرات والاجتماعات والفعاليات المتعلقة بمكافحة القرصنة في خليج عدن والبحر الأحمر وغرب المحيط الهندي في كل من عمان وتنزانيا وكينيا وجيبوتي والتي أقرّت فيها مسوّدة تسمى "مسودّة السلوك" الموقّعة في جيبوتي في يناير 2009، وإقرار تأسيس مركز إقليمي لتبادل المعلومات حول القرصنة ومقرّه صنعاء، ومركزين آخرين في كلٍ من دار السلام وممباسا. كما استضافت اليمن الاجتماع الإقليمي حول الأمن البحري في خليج عدن، والذي عُقد في صنعاء في فبراير 2009، واجتماعات الدورة التاسعة لوزراء خارجية رابطة الدول المطلّة على المحيط الهندي في يونيو 2009. واستهدفت التحرّكات الدبلوماسية للقيادة السياسية وعلى رأسها دبلوماسية فخامة رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح تقريب وجهات النظر وتحقيق المصالحة بين الأشقاء في الصومال، والسعي مع المجتمع الدولي لدعم الحكومة الصومالية المؤقتة، لبناء مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الأمن والجيش في سبيل تحقيق الأمن والاستقرار، لأن الحكومة الصومالية بجيشها وأمنها القوي هي الأقدر على حماية السواحل الصومالية ومكافحة القرصنة. كما استهدفت التحرّكات الدبلوماسية اليمنية وعلى مختلف الأصعدة تنسيق المواقف إزاء المشكلة سواءً في إطار التعاون الثنائي، وخصوصاً مع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر أم على مستوى المنظمات الإقليمية والدولية، ومنها: جامعة الدول العربية ومنظمات الأممالمتحدة (مجلس الأمن الدولي والمنظمة البحرية الدولية). القرصنة في مؤتمر عدن الاستثماري: اللجنة التحضيرية لمؤتمر عدن الاستثماري (عدن.. بوابة اليمن للعالم) أدرجت في وقت سابق بعد إقرار محاور المؤتمر موضوع القرصنة كمحور أساسي سيتم مناقشته إلى جانب المحاور الستة الأخرى المختصة بجوانب الاستثمار ومعوقاته في اليمن والفرص الاستثمارية المتاحة. وعزا المشرف العام للمؤتمر المهندس بدر محمد باسلمة إدراج هذا المحور إلى تفاقم مشكلة القرصنة خلال الآونة الأخيرة، وما سببته من أضرار اقتصادية كبيرة لليمن ودول الجوار خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، متوقعا أن يخرج المؤتمر بتوصيات وحلول جذرية لهذه المشكلة. وأشار باسلمة إلى الآثار السلبية التي تسببت بها هذه الظاهرة على النشاط الاقتصادي والتجاري لميناء عدن بطريقة مباشرة وغير مباشرة من خلال ارتفاع التأمينات على تكاليف النقل بسبب هذه الأعمال. من جانبه، رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشيخ محمد عمر بامشموس أشار إلى أن قضية القرصنة ليست قضية اليمن وحده، أو الدول المُطلة على خليج عدن، وإنما قضية عالمية تهم دول العالم كافة، وحل هذه المشكلة هو أمان للمنطقة (خليج عدن). مؤكدا على ضرورة الخروج بحلول دولية لحماية دخول وخروج البواخر إلى منطقة الخليج. وأضاف بامشموس: "اليمن قادر على ذلك، ومن خلال مناقشتنا في المؤتمر سنعطي ضوءا للمستثمرين عن الواقع، ولسنا يائسين، ولن نستسلم وسنشق طريقنا، وهناك نظرة لليمن بهذه القضية من خلال علاقته في المؤتمر القادم من خلال مناقشة قضية القرصنة كمحور أساسي". فيما أكد الرئيس التنفيذي لمؤسسة موانئ خليج عدن رئيس مجلس الإدارة المهندس محمد بن عيفان على أهمية مناقشة هذه الظاهرة في المؤتمر واكتشاف أسبابها وإيجاد الحلول المناسبة لها، مشيرا إلى ما تسببت به هذه الظاهرة من انخفاض في معدل استقبال البواخر في بعض أنواع التجارة. وأضاف بن عيفان: "أن المشكلة مثلما هي في عدد البواخر الواصلة، أيضا هي في الرسوم المفروضة على البضائع التي تأتي بها هذه السفن، ولا يمكن أن نكون مسرورون إذا ما قلنا إن عدد السفن تدنى منذ بداية العام إلى الآن بنسبة 10 بالمائة، رغم أن هذا شيء جيّد، هناك موانئ مجاورة تراجعت فيها معدلات استقبال السفن بنسب أكبر بكثير مما حصل عندنا". وأوضح رئيس موانئ خليج عدن أن الزيادة في رسوم تأمين ورسوم الشحن أدى إلى زيادات في الأسعار، وإلى تنمية مكلفة أكثر داخل البلد، وإلى معاناة أكثر من المواطن بسبب الأسعار، مشيرا إلى أن نتيجة لطبيعة ميناء عدن والسياسات التي اتبعت لمواجهة هذه المشاكل تم التقليل من الأضرار إلى الحد الأدنى. آمال في إيجاد الحلول: ويرى المدير التنفيذي لشركة "سبأ عدن" للملاحة والشحن والتفريغ المحدودة، علي صالح عاطف الشرفي، أن مناقشة المشكلة في المؤتمر فرصة ليضع اليمنيون أقدامهم في الموضوع الذي يمس اقتصادهم وأمنهم الوطنيين، مشيرا إلى ضرورة أن يتم مناقشة الموضوع على أساس كيف يمكن لليمن أن يستفيد منه وخلق فرص عمل جديدة تتمثل في إقامة شركات أمن ترافق البواخر خلال مرورها بخليج عدن. واستغرب الشرفي كيف يمكن لثلاثة أو أربعة قراصنة أن يتقطعوا لبواخر ضخمة مثل ناقلات الوقود التي يكون فيها ثلاث محطات لهيلكوبتر ويختطفوها.. منوها إلى وجود بُعد آخر قد يكون سياسيا يتمثل بعدم التحكّم بهذا الممر البحري الهام وتدويله بحيث لا تتمكن دولة واحدة فقط من السيطرة عليه، معللا ذلك بتوافد الكثير من السفن الحربية لعدد من الدول الكبرى إلى المنطقة، وعدم تمكنها حتى الآن من حل هذه المشكلة. ويوافقه في الرأي كبير الخبراء الاقتصاديين السابق بمنظمة الاسكوا، الدكتور محمد عبد الله باشراحيل، الذي أعرب عن اعتقاده بأن هناك مشروعا مطروحا للمنطقة ككل تتعلق بتغيرات سياسية إقليمية قادمة، مستغربا هو الآخر سبب قدوم كل هذه القوات الحربية لأكبر الدول وأعظمها لمحاربة بضعة قوارب صغيرة. وأضاف باشراحيل إلى أن هذا المشروع ما زال في ملف مغلق لم يفتح حتى الآن، مؤكدا ضرورة إيجاد الحلول المناسبة لهذه الظاهرة التي أثرت بشكل كبير على اقتصاد البلاد، وأعطى للدول الأخرى فرصا للتحكّم بممر باب المندب الهام. سؤال متروك للمؤتمر: من هنا يأتي السؤال حول إمكانية خروج المؤتمر بحلول مناسبة لهذه المشكلة والقضاء عليها بشكل نهائي، أم أنه سيكون كباقي المؤتمرات التي عُقدت من سابق، ولن تأتي بأي جديد لحل هذه الظاهرة خاصة مع مشاركة عدد كبير من الشخصيات الدولية البارزة ورجال الأعمال والاقتصاديين والمسؤولين والرؤساء التنفيذيين للشركات الاستثمارية والملاحية اليمنية والعربية والأجنبية والخبراء من المنظمات الإقليمية والمختصين في الجهات الحكومية والدول الشقيقة والصديقة والجهات الحكومية المعنية والتي يتأثر اقتصادها واستثماراتها وأرباحها من جراء بروز هذه الظاهرة وانتشارها المتسارع؟ السياسية