اشتهرت تعز كمنارة للعلم والإبداع؛ وذلك لمعاصرتها كثيرا من الدول التي تعاقبت عليها وتركت آثارا تدل على حضارة عظيمة سادت ثم بادت وأفل نجمها. ما يزال البعض من تلك الآثار شامخا إلى اليوم، فهناك الكثير من الآثار التاريخية والدينية، وخاصة تلك التي أنشأتها الدولة الرسولية التي اهتمت بالعلوم وأنشأت الكثير من المدارس العلمية وسخرت لها الإمكانات إلى جانب تشييد الجوامع والتي كانت إلى جانب؛ كونها دورا للعبادة، فهي أيضا مدارس للعلوم، وكانت بالفعل تمثل منارات علمية وكتابا مفتوحا لقراءة أصول وفنون الحضارة اليمنية، فهي ليست مجرد مبان فقط، بل تعد من روائع الفنون المعمارية، مثل جامع ومدرسة الاشرفية وجامع المظفر قبلة المدينة السياحية. بعض من تلك المعالم اندثر بفعل الجهل والعبث، والبعض منها مايزال حياَ يصارع كل عوامل التعرية الطبيعية والبشرية التي يتعرض لها باستمرار، ويبدو أن أغلبها لا يزال في باطن الأرض بحاجة إلى اكتشافه. اليوم وبعد حقبة من النسيان التفتت دولة الوحدة المباركة واستشعرت أهمية المحافظة على تلك الكنوز فبدأت بعملية الترميم لبعض تلك الآثار. في هذا اللقاء نستعرض مع مدير عام فرع الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة تعز، العزي مصلح، واقع حال الآثار في المحافظة وما تتعرض له من اعتداءات وكذا عمليات الترميم التي تجرى لبعض المعالم والآثار.. فإلى نص الحوار. * هل قام فرع هيئة الآثار في محافظة تعز بأي مسح للآثار وتوثيقها؟ - فيما يتعلق بمسح المواقع الأثرية، الحقيقة أنا في ذهني الخارطة الأثرية للمحافظة منذ العام 1985، حيث قمنا بزيارة لمختلف مديريات المحافظة وحينها قمنا بتحديد أكثر من 45 موقعا أثريا، غير ذلك لا يوجد، والآن هناك توجه للوزارة ووحدة التراث في الصندوق الاجتماعي للتنمية بعمل أطلس لليمن بشكل عام تشترك فيه الهيئة العامة للآثار والصندوق الاجتماعي للتنمية وهيئة المساحة، وعلى ضوئه سيتم توثيق كل المواقع الأثرية في كل محافظة. * لا شك أن للمسح أهمية كبرى في الحفاظ على الآثار، أين تكمن تلك الأهمية؟ - المسوح الآثارية مهمة جدا، وهي ليست لتحديد وحصر المواقع، بل تمتد أهميتها في إلزام السلطات المحلية في كل مديرية، للمحافظة على الآثار وحمايتها من العبث، كما هو حاصل اليوم لكثير من الآثار، نتيجة جهل الناس بأهميتها، والجميع يتنصل من المسؤولية بدعوى الجهل وعدم الدراية؛ لأنه لا توجد لديه وثائق يستند إليها، ولذلك كانت عملية الاعتداءات على الآثار ناتجة عن هذا السبب. * ما نوع تلك الاعتداءات؟ وأي المواقع التي تعرضت للاعتداء؟ - هناك اعتداءات كثيرة، من ذلك الاعتداء على "قلعة قريش" في منطقة خدير، بادعاء بعض الأهالي ملكيتهم للموقع، وحينها لجأنا إلى القضاء، ولنا أربع سنوات في التقاضي، وهناك اعتداءات أخرى أيضا لجأنا إلى القضاء وصدرت فيها أحكام لصالحنا. * لماذا لا تقومون بتسوير المواقع وحمايتها من العبث؟ - نحن عملنا تجربة في تسوير بعض المواقع وفشلت التجربة؛ لأن الاعتداءات كثرت بسبب غياب الوعي لدى المواطن بأهمية الآثار، وكذلك غياب الحس الوطني لدى الناس، فالتسوير وحده لا يكفي إذا لم يكن هناك إحساس بالمسؤولية وبقيمة تلك الكنوز التاريخية. * ما هي أهم الاكتشافات التي توصلتم إليها أثناء المسح؟ - من خلال مسح 1985 اكتشفنا موقعا هاما جدا وهو الكشف عن مدينة اسمها "صلوق" في منطقة الريبة شمال دمنة خدير. هذه المدينة تعود لعصور ما قبل الإسلام، وقال عنها الهمداني إنها كانت صناعية فكان يصنع فيها الذهب والفضة والدروع "الصلوقية"، كما أنها اشتهرت بالكلاب "الصلوقية" المشهورة اليوم، وقد اهتم الإخوة في الخليج بهذه الفصيلة ويقيمون لها مهرجانات سنوية؛ لأن "الكلب الصلوقي" مشهور بأنه أذكى وأسرع كلب، ونستغرب خلو حدائقنا من هذه الفصيلة التي هي أصلا يمنية! كما وجدنا نقوشا تتحدث عن منشأة ومعسكر صلوق في الجهة الشرقية من "نقيل الإبل"، فالموقع بحاجة إلى تنقيب وجهد، وسأتفرغ له بعد إحالتي إلى التقاعد سيكون لديّ وقت أتابع فيه البحث عن مصادر تمويل؛ لأن الوظيفة تقيّدك تماما وبالدرجة الأولى أنت مطالب بتوقيع حضور وانصراف. * وماذا عن عملية الترميم التي تمت لبعض الآثار التاريخية والجارية حالياً؟ - فيما يتعلق بالترميم لدينا عدد من مشاريع الترميم، منها ما تم تنفيذه، ومنها مايزال قيد التنفيذ، وهي: مشروع جامع المظفر وهو ينسب إلى المظفر يوسف بن علي رسول في القرن السابع الهجري. بدأ التدخل لإنقاذ المبنى حيث كان مهدد بالسقوط في العام 2005 فتم حينها نقل جثث الموتى من ملوك الدولة الرسولية وإخراج الأتربة من الجلمونات والمخلفات وعمل مجس لاستقراء وضع الجامع من الناحية الإنشائية. وفي العام 2006 تم استقراء رواق القبلة وفتح السقوف الخشبية في النصف الشرقي للقبلة وعمل مجسات معالجة التصدعات عموما وترميم الجلمونات واستبدال جميع الأخشاب والروابط ومعالجة الرطوبة. فكان التدخل هنا إسعافي. فالجامع مخطط له أن يكون بعد الانتهاء من الاشرفية وهو مشروع كبير جدا ويحتاج إلى تمويل كبير. أيضا الاشرفية يمثل ثلث المظفر ولذلك البحث جار عن مصدر للتمويل إلى جانب الصندوق ونحن متفائلون. ثاني عمليات الترميم تشمل مدرسة المعتبية، نسبة إلى المعتب الطوشي زوجة الملك الأشرف إسماعيل، شيدت في العام 796 هجرية وتعتبر النموذج الأول لمدرسة الأشرفية وتتكون من أربعة أروقة ورواق القبلة وصحن مكشوف ومحلات الطهارة ويتكون السقف من ست قباب محمولة على عمود يخرج منه أربعة عقود مزخرفة بزخارف جبسية وآيات قرآنية وفي صيف العام 2006 كان التدخل الإنقاذي المحدود من قبل الصندوق الاجتماعي للتنمية من خلال ترميم قواطع الأروقة واستبدال السقوف الأربعة والصحن المكشوف بأخشاب الطنب والأصابع ووضع طبقة من القضاض، كما تم ترميم جميع الروابط الخشبية واستبدال عتبات الأبواب والنوافذ وترميم ما يعلو الأبواب من تصدعات في القباب والسقوف الجلمونية الجنوبية وعمل مجسات لمعرفة مصادر الرطوبة ومعالجتها وبلغت تكلفة المشروع 11 مليونا و500 ألف ريال. ومن عمليات الترميم أيضا مدرسة الاشرفية والتي تعد واحدة من روائع الفنون المعمارية التي تنتمي للدولة الرسولية وتعد الجوهرة النفيسة لمدينة تعز ومعلمها الشامخ وقبلتها السياحية وهي نسبة إلى الملك الأشرف إسماعيل بن علي بن العباس وكان إنشاؤها بأمر من السلطان الأشرف عام 800 هجرية، والمدرسة تعرضت لأضرار كثيرة تمثلت بتصدعات القباب وبدن المنشأة والأساسات والمنارتين وبدا العمل بالترميم في العام 2005 حيث تم معالجة وترميم جميع الأضرار الإنشائية في المبنى والمنارات والسطوح والأساسات واستبدال الأخشاب التالفة ثم مباشرة تم الترميم الدقيق للزخارف النباتية والجبسية والخشبية، وبلغت تكلفة الترميم 87 مليونا و500 ألف ريال، وما تزال عملية الترميم مستمرة ويتوقع الانتهاء منها في العام 2012، كما تشمل عملية الترميم المتحف الوطني الذي تعرض إلى حمولات زائدة تمثلت في سمك السقف والصبات الخراسانية والإضافات العشوائية في مراحل لاحقة وتآكل الروابط الخشبية وانتشار الحشرات القارضة إضافة إلى حركة الزوار مما أدى إلى تشققات في أرضية غرف المبنى بشكل عام وتشقق في القواطع الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تدخل الصندوق الاجتماعي للتنمية وبدأت عملية الترميم حيث تم البدء بتدعيم المبنى وحقن المبنى والمحيط للقضاء على الحشرات وعمل مجسات في أرضية المبنى وأخرى في محيط الأساسات لمعرفة أسباب الأضرار من الجانب الإنشائي وتبديل جميع الأخشاب، إضافة إلى إزالة السقف الخراساني في القسم الملحق وفتح السقوف الخشبية له وفتح جميع سقوف الطابق الأرضي وتبديل الأخشاب والعمل لا يزال جاريا وسيأخذ وقتا كبيرا، وبلغت تكلفة الترميم لهذه المرحلة 28 مليونا و700 ألف ريال، بينما المبلغ المرصود للترميم 52 مليون ريال. كما تشمل عملية الترميم قصر صالة، وهو من المباني التي شيدت في عهد الإمامة العام 1952 وقد تعرض لكثير من الأضرار وخاصة التصدعات في الجدار الغربي والركن الشمالي الشرقي وتآكل الأخشاب وبعض الأحجار الرسوبية واندفاع في غرف الطابق الرابع وقد قام الصندوق بعمل دراسات للترميم وتحديد الأضرار، وجامع الجند التاريخي أيضا والذي يعتبر خامس مسجد شيّد في حياة الرسول محمد (ص) في السنة العاشرة للهجرة وقد تعرض الجامع لكثير من الترميمات فيعهد الدويلات المختلفة وبخاصة الزيادية والصليحية. وتتمثل الأضرار الحالية للجامع في ميول المنارة أعلى مستوى السطح وقد بداء التدخل لترميم المنارة في الأشهر الماضية من هذا العام. قلعة القاهرة أيضا شملتها عملية الترميم وبدأ العمل فيها باكرا في العام 2000 وقد تم الانتهاء من المرحلة الأولى والتي شملت إعادة تأهيل الطرقات والممرات والجدران الساندة والأسوار والحمامات والخزانات المائية، ويجري الآن العمل في المرحلة الثانية والأخيرة وهي استكمالا للمرحلة الأولى إضافة إلى التنقيبات وإعادة الأبراج. وهناك أيضا الباب الكبير وقد تم الانتهاء من عملية الترميم وإعادة تأهيله، حيث تم إزالة الإضافات الأسمنتية من الواجهات الخارجية وترميم واجهات المباني من الداخل وترميم التصدعات واستبدال الأخشاب واستبدال جميع الأحجار المتضررة والأخشاب التالفة وتبديل الأبواب والنوافذ وفقا للنمط التقليدي، وبلغت تكلفة الترميم 18 مليونا و524 ألفا و250 ريالا. كما أن عمليات الترميم شملت باب موسى، بالتعاون مع جمهورية فرنسا الصديقة. لقد كان الباب على وشك الانهيار بسبب تشقق الأبراج واندفاعها إلى الأمام وتآكل الأخشاب وتصدعات في العقود والقواطع وقد بدأ التدخل في العام 2008 بتغيير الأخشاب وتنظيف المبنى من عوائق الطلاء والنورة وعمل حزام خرساني لمنع تسرب الرطوبة ومعالجة التشققات واستبدال الروابط الخشبية وما تزال عملية الترميم مستمرة. وفيما يتعلق بمبلغ الترميم المعتمد فهو 28 مليونا وثمانمائة ألف ومائة وسبعون ريالا، إضافة إلى توجيه الأخ المحافظة بدفع تعويض لأصحاب المباني الملتصقة بالمبنى ب7 ملايين و500 ألف ريال. * وماذا بعد إعادة تأهيل البابين؟ - نحن نسعى لإعادة ترميم باب موسى والباب الكبير لإعادة تأهيلهما كمراكز إشعاع، فنحن لدينا مشروع ليكون مركز لإحياء التراث والفنون على غرار سماسر صنعاء القديمة. أما باب موسى فالهدف هو إعادة تأهيل المبنى ليكون مركزا للموروث والتراث الشعبي، فهناك الكثير من الحرف اليدوية التي كانت تشتهر بها تعز واندثرت معظمها هذا المركز سيتم تأهيله لإعادة إنتاج هذا الموروث وتطوير تلك المنتجات كموروث حضاري، سواء فيما يتعلق بالحرف اليدوية مثل صناعة الحلي والنسيج، أو فيما يتعلق بالتراث الشعبي مثل الحكاوي والسير الشعبية وما أكثرها، وغيرها من الموروثات، فالغرض ليس استخدامه كمبنى لأي شيء، بل للحفاظ على الموروث والتراث الشعبي الذي فقدناه في زحمة الهموم المختلفة وهو جزء هام من الذاكرة. صحيفة السياسية