أطلق الرئيس محمود عباس توجها جديدا في تعامل السلطة الوطنية الفلسطينية مع برتوكول باريس الاقتصادي، بالدعوة إلى إلغائه. وتشكل هذه الدعوة اشتباكا جديدا مع الإسرائيليين في معركة الاعتراف بعضوية فلسطين في الأممالمتحدة، خاصة وأنها جاءت بعد تقديم الرئيس طلب العضوية في ال23 من سبتمبر الماضي. ويوضح السيد محمد مصطفى، المستشار الاقتصادي للرئيس، الأساس الذي انطلقت منه هذه الدعوة، ويقول: "في إطار الجهود للاعتراف بالدولة المستقلة، فإنه يتوجب على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي العمل بشكل جدي على الاستعاضة عن بروتوكول باريس باتفاق آخر، يضمن استقلال القرار الفلسطيني الكامل، والسيطرة على سياساته الاقتصادية والتجارية'. وأضاف: "جولات المفاوضات في كل من طابا وأنابوليس ركزت على استبدال بروتوكول باريس باتفاق بديل، يضمن الاستقلال الاقتصادي لدولة فلسطين في تسيير شؤونها الاقتصادية، وتوصل الطرفان إلى اتفاق على أن تكون العلاقات المستقبلية الاقتصادية والتجارية بينهما قائمة على أساس الاعتراف باقتصاديين مستقلين، وسيادية كل طرف، وحقه في إدارة شؤونه الاقتصادية الخارجية والداخلية'. مصطفى: اقتصاد مستقل يعني سيادة كاملة وسيطرة على المعابر ويبين مصطفى، في بيان صحفي له حول الموضوع، أن وجود اقتصاد فلسطيني مستقل يتطلب العمل على ترسيخ السيطرة الفلسطينية الكاملة على مجموعة من العناصر الرئيسية وهي: السيطرة على الحدود بين فلسطين وجيرانها، بما في ذلك إسرائيل، وعلى حركة الأشخاص والسلع والخدمات من وإلى فلسطين، من خلال المعابر البرية والبحرية والجوية، والسيطرة على الموارد الطبيعية في فلسطين، والسيطرة الكاملة على سياسات وعلاقات فلسطين التجارية مع العالم الخارجي، مع إنشاء نظام جمركي فلسطيني، إضافة إلى حرية وضع سياسة ضريبية ونقدية فلسطينية مستقلة، بما في ذلك إصدار عملة فلسطينية. ويتابع مصطفى: السلطة الوطنية وافقت على بروتوكول باريس حينما وقعت عليه عام 1994، بشروطه المجحفة جدا، على اعتبار أنه ترتيب مؤقت لحين الانتهاء من المفاوضات السياسية في غضون خمس سنوات، إلا أنه أصبح لأجل غير مسمى، كما أن الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة تنصلت من الاتفاقيات شيئا فشيئا، وتراجعت في نهاية المطاف عن التزاماتها من خلال الوقائع التي أوجدتها على الأرض. ويضيف: "بروتوكول باريس تضمن أصلا إيجاد نسخة معدلة من 'الاتحاد الجمركي' الذي يحد بشكل كبير من الاستيراد المباشر من الأسواق الخارجية، إلى جانب آلية تقوم إسرائيل بموجبها بجباية الضرائب والجمارك للسلطة الفلسطينية، وآلية لتسوية ضريبة القيمة المضافة، واتفاق يسمح للأيدي العاملة الفلسطينية بالعمل داخل إسرائيل، إلا أن إسرائيل واصلت على أرض الواقع سيطرتها على السياسات والإجراءات النقدية والتجارية والضريبية للسلطة الوطنية، لتكون محصلة بروتوكول باريس نشوء علاقة تجارية غير متكافئة منعت تطور الاقتصاد الفلسطيني بشكل يعكس إمكانياته الكاملة، بل جعلت منه تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي، واستمرت الحكومات الإسرائيلية بالتخلف عن التزاماتها. مغازي سياسية للدعوة وعن مغزى هذه الدعوة، سياسيا، يقول عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات ل"وفا": "معركتنا الآن هي إعادة فلسطين إلى خارطة الجغرافيا، 'مضيفا، أن أي نظرة على اتفاق باريس الاقتصادي وغيره من الاتفاقيات تظهر مدى الإجحاف الذي لحق بالسلطة الوطنية جراء هذه الاتفاقيات التي تجاوزها الزمن". ويؤكد وزير العمل أحمد مجدلاني الفكرة بقوله: "نحن اليوم أمام وضع سياسي جديد طرحناه على الأممالمتحدة بعد فشل كل الاتفاقيات الموقعة بيننا وبين الجانب الإسرائيلي بالرغم من كل المواعيد والجداول الزمنية". ويضيف: "نحن نعمل اليوم على إنهاء الاحتلال وصوغ علاقة جديدة، سياسية وتجارية، بين دولتين على أساس من الندّية، ولا نتجه لإعادة التفاوض على قاعدة الاتفاقات السابقة القائمة على أساس المرحلة الانتقالية". ويؤكد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أن المرحلة الانتقالية بكل التزاماتها تجاوزها الزمن، ونحن أمام مرحلة جديدة ينبغي علينا التعمق في تفاصيلها، وعلى رأسها اتفاق باريس الاقتصادي، وبالأخص موضوع التبادل التجاري والضريبة. تحذير من مراجعة برتوكول باريس الاقتصادي ويحذر الأكاديميون الاقتصاديون من مراجعة الاتفاق لأنه جزء من اتفاق سياسي، ومراجعته تعني الذهاب إلى السلام الاقتصادي الذي نادى به رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، لكنهم دعوا للاستفادة من بعض النقاط التي تضمنها الاتفاق ولم يتم تفعليها. ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت، محمد نصر، إن اتفاق باريس الاقتصادي جزء من اتفاق سياسي لا يمكن تعديله أو إلغاؤه من طرف واحد، ودون أن يكون هناك تصور كامل لما يمكن أن يكون عليه الوضع. ويضيف نصر: "رغم أن عمر برتوكول باريس الاقتصادي انتهى، لكن هناك بعض البنود التي جردتها إسرائيل من معانيها يمكن إعادة تفعليها، وتفعيل بعض النقاط التي تضمنها الاتفاق دون أن يعني ذلك تعديلها، مثل تخفيض قيمة الضريبة المضافة، استيراد الاسمنت والنفط من الخارج، حيث نصت الاتفاقية على استيراد السلطة لكميات محددة منه من إسرائيل، واليوم تضاعفت الحاجة له ويمكن استيراده من الخارج، وتشجيع المشاريع الصغيرة والصناعة المحلية والزراعة لتخفيف الاعتماد على إسرائيل في الاستيراد وفي العمالة. ويتفق معه في التقدير أستاذ الاقتصاد في جامعة القدس، محمود الجعفري، الذي يؤكد أن اتفاق باريس نفذته إسرائيل بتجبر وعلى أساس القوة وفقا لمصالحها وليس على أساس الأحكام. ويعلق مدير عام معهد الدراسات الاقتصادية 'ماس' سمير عبد الله، على هذه التصريحات بقوله: "واضح أننا أمام مرحلة جديدة، تتغير فيها قواعد اللعبة من مدريد مرورا بأوسلو التي فشلت فشلا ذريعا، حتى اليوم، وهي غير قادرة على الاستمرار، ولها انعكاساتها على الأرض لدفع الحقوق الفلسطينية على الأجندة الدولية بصورة أقوى، وتحمل تبعات التغيير في الأجواء ". ويقول عبد الله: "علينا أن نكون مستعدين ليس فقط للصمود، وإنما علينا إطلاق مبادرات لتثبيت حقوقنا واستغلال أكبر للهامش المتاح أمامنا، رغم معرفتنا أننا تحت الاحتلال، وذلك من خلال مراكمة مقومات الصمود وتحسين مستوى الحياة". ويضيف: "إذا فكرنا بصورة منفتحة يمكن لنا تجميع مصادر مهمة لدخل السلطة الفلسطينية وزيادة قدرتنا على الصمود". ويعتقد عبد الله أنه يمكن عمل الكثير من خلال زيادة حصة المنتج الفلسطيني، وهو موضوع حيوي ومهم، وتخفيف العجز التجاري مع إسرائيل والعالم بزيادة القدرات الذاتية في إنتاج احتياجات المواطنين، وتغيير مفهوم الشراء وهو جزء مهم في معركة التحرر من الاحتلال، وعلى المواطن أن يتعلم كيف يختار سلة احتياجاته، واحتياجات بيته، وترشيد نفقاته. جوانب تأثير اتفاق برتوكول باريس الاقتصادي كانت إسرائيل قد هددت، في سياق معركة العضوية في الأممالمتحدة، بإلغاء برتوكول باريس الاقتصادي، لكن تقديرات لسياسيين واقتصاديين استبعدت لجوء إسرائيل لمثل هذا الخيار لأنها المستفيدة من هذا الاتفاق. ويمكن رؤية انعكاسات هذا البرتوكول على الاقتصاد الفلسطيني عبر ثلاثة محاور: عمليات المقاصة (تحويلات الضرائب على الواردات والضرائب المباشرة وغير المباشرة)، والمسائل النقدية (التحويلات من وإلى الشيكل)، وقضايا العمل والعمال. وعرضت ورقة عمل لمعهد الدراسات الاقتصادية "ماس" لهذه المحاور بالتحليل. وبينت أن إيرادات المقاصة هي عبارة عن مجموع الإيرادات التي تقوم إسرائيل بجبايتها نيابة عن السلطة، مقابل رسم 3% من قيمتها، وتأتي من الضرائب المباشرة (ضريبة دخل العمل داخل إسرائيل والمستوطنات). أما الضرائب غير المباشرة فهي ضريبة القيمة المضافة وضرائب الشراء وأية ضرائب أخرى ترتبت على التبادل التجاري بين إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة. أما الضرائب المفروضة على مستوردات الضفة والقطاع من العالم الخارجي، عبر إسرائيل، فهي الجمارك والرسوم وضرائب أخرى، وهذه التسويات الضريبية تعتمد على البيان الجمركي كسند إثبات، وليس على فاتورة المقاصة التي ينحصر دورها في إثبات إيرادات الجمارك والضرائب غير المباشرة التي تقوم إسرائيل بجبايتها على المستوردات الفلسطينية. بلغت إيرادات السلطة الفلسطينية من المقاصة للعام 2010 حوالي 1.3 مليار دولار، مشكلة ارتفاعا بنسبة 13% عن العام السابق، وهذا عائد لارتفاع ضريبة المحروقات بنسبة 22%، وارتفاع إيرادات الجمارك، نتيجة زيادة الاستيراد، بنسبة 12%. وتستخدم إسرائيل هذا النوع من الضرائب في ابتزاز السلطة الوطنية سياسيا، وسبق لها واستخدمته في العام 2002 بحجز هذه الضرائب لمدة عام ونصف تقريبا، وعادت واستخدمته هذا العام للضغط على السلطة لمنع توجهها إلى الأممالمتحدة، وما زالت تهدد باستخدامه. وتؤمّن فاتورة المقاصة حوالي 65% من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، والتي تصل لحوالي 1.7 مليار دولار سنويا. وأدت هذه السياسات إلى خسارة الفلسطينيين مبالغ مالية كبيرة بسبب عدم استرجاع كافة الضرائب التي يدفعها المستهلكون الفلسطينيون، فلا تسترجع السلطة، على سبيل المثال، ضرائب المشتريات التي يتم دفعها على السلع والبضائع التي يتم شراؤها من إسرائيل، ما عدا المحروقات. وقدرت دراسة للاتحاد الأوروبي هذا التسرب في العام 1999 ب90-140 مليون دولار في العام، في حين قدرته دراسة للبنك الدولي في العام 2002 بحوالي 133 مليون دولار سنويا (أي ما نسبته 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي). ومن القيود التي يفرضها برتوكول باريس على السياسة المالية والجمركية، تطبيق ذات السياسة الجمركية (التعرفة والمواصفات على الواردات) التي تطبقها إسرائيل، وكذلك فرض حد أدنى على معدلات ضريبة القيمة المضافة، بحيث لا يقل معدل فرض القيمة المضافة في الأراضي الفلسطينية عن المعدل في إسرائيل بأكثر من نقطتين، إلى جانب تطبيق معدلات ضرائب المشتريات والضرائب غير المباشرة ذاتها على الإنتاج المحلي. كما فرضت الاتفاقية حدا أدنى على أسعار المشتقات النفطية في الأراضي الفلسطينية (الفارق مع الأسعار في إسرائيل يجب أن يكون أقل من 15% من سعر البيع في إسرائيل). التأثير على السياسة النقدية أما فيما يخص السياسة النقدية، فقد أعطى برتوكول باريس سلطة النقد، صلاحيات وحقوق محددة، منها دور "مقرض الملاذ الأخير" للمصارف العاملة في الأراضي الفلسطينية، ويعطي الاتفاق سلطة النقد الحق في تحديد متطلبات السيولة بالعلاقة مع الودائع في المصارف التجارية، لكنه يفرض حدودا دنيا على متطلبات السيولة بالعلاقة مع الودائع بالشيكل. كما ينص الاتفاق على أن الشيكل الإسرائيلي سيكون واحدا من العملات المعترف بها والمقبولة كأداة للمدفوعات بما فيها الصفقات الرسمية، وكذلك يؤكد الاتفاق حق سلطة النقد تحويل فوائض الشيكل لدى المصارف التجارية في الأراضي الفلسطينية إلى عملات أجنبية أخرى، ولكن هذه الكمية تحدد على أساس فائض أو عجز ميزان المدفوعات بين الطرفين. ويحدد الاتفاق سقف كمية العملات الأجنبية التي يتم تحويلها للشيكل. وعانى قطاع غزة من نقص السيولة، بعد الانقسام، بسبب اشتراط إسرائيل موافقة قيادة الجيش المسبقة على تحويل آي مبالغ من الشيكل، أو العملات الأخرى، إلى القطاع، وألحقت هذه السياسة الضرر بعدد من المصارف. ورفض الجانب الإسرائيلي الالتزام بعدد محدد من العمال في المفاوضات الخاصة بالعمل في اتفاق باريس الاقتصادي ، وحصل الجانب الفلسطيني، فقط، على وعد بالحفاظ على التدفق العادي للعمالة، وهو ما يعطي إسرائيل القدرة على التحكم بعدد العمال. وقد قامت بذلك مرارا، وتأثرت حركة العمال بالظروف السياسية، وتراجع عدد العمال الفلسطينيين داخل إسرائيل من حوالي المليون عامل في العام 2000 إلى 240 ألف عامل بداية العام 2010. وهذا التراجع أدى إلى ارتفاع نسب البطالة داخل المجتمع الفلسطيني، حيث وصلت لحوالي 34% ما يشكل تحديا للتنمية في فلسطين. *وكالة الأنباء الفلسطينية ( وفا) الملف الاقتصادي لاتحاد وكالات الانباء العربية ( فانا)