الأهجر سيمفونية تحاكي الحياة وتتجلى بإشراقة فريدة، وجوهرة خبأتها الجبال لتنعم بجمالها منفردة، تترجم آهاتها وأفراحها بلغة الريف اليمني الزاخر بألف معنى ومعنى. تخال أشجارها ترقص طربةً على وقع خرير المياه التي تنهمر من عيونها الكثيرة.. حصينة بجبالها الذي زادتها حصانة قلاعها القديمة التي لم يبق منها إلا آثارها.. وتمتلك الأهجر واحدة من أقدم طواحين الماء التي أصبحت أثراً درس.. توحي بعبق التاريخ واخضرار الطبيعة، مغرية، سيما وأن الكثير من كنوزها الأثرية تخفيها عن الظهور أطنان الرمال وسطوة الزمن. كان وصولنا عند شروق الشمس مع مجموعة من الإعلاميين بعد حوالي الساعة قطعناها بهدوء بالسيارة من العاصمة صنعاء إلى منطقة كأنها صورة جنة الخلد منقوشة في عرض الأرض.. إنها الأهجر تلك البقعة الحالمة من أرض اليمن التي بدت وكأنها تنفض غبار الليل ووسن النوم إثر الإشراقة الأولى، لم نعرف من أين نبدأ فكل بقعة فيها تحكي قصة مع الزمن. والأهجر عزلة تقع إلى الشمال الغربي من العاصمة صنعاء أسفل جبل كوكبان جهة الجنوب، وتبعد عن صنعاء مسافة 60 كيلو متراً، وترتفع عن سطح البحر حوالي 2100 متر، ورغم قربها من صنعاء إلا أنها تتبع إدارياً محافظة المحويت، وتقع في وسط وادي خصب تحيط به الجبال من جميع الجهات إحاطة السوار بالمعصم مما جعلها أشبه بقلعة حصينة، حيث يحيطها من جهة الشرق جبل مذمرة، ومن جهة الشمال جبل كوكبان، ومن جهة الغرب جبل الحمرور، ومن جهة الجنوب جبل عرضو. وقد ورد اسم الأهجر في النقوش اليمنية القديمة، حيث ذكره الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب بأنه " أهجر شبام أقيان بن زرعه بن سبأ الأصغر"، وقد سكنها بنو الأهجري الذين ينسبون إلى الإمام المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي". خضرة دائمة: تتناثر القرى والمزارع على جوانب الوادي متباهية بخضرتها التي تسلب الناظرين، ومن أهم هذه القرى: الهجرة، الحصن، بيت سميع، العرة، الظهار، سامك، المعين، حجر القصر، حجر مقسم، والمذوب.. إلى غير ذلك من القرى الصغيرة المحيطة بوادي الأهجر. وقفنا برهة نتأمل جمال الطبيعة ونستنشق نسيمها العليل الذي نفتقده في المدن.. كانت تلك اللحظات تعطي انطباعاً جديداً ومحاولة أخرى لتفسير الحياة على نحو يوحي بالأمل المستمد من الخضرة، وما يعنيه اللون الأخضر من التفاؤل والغد المشرق. وقد عرفنا أن سر تمتع هذا الوادي بالخضرة الدائمة هو عدد عيونها وغيولها الكثيرة، حيث يذكر أنها كانت بعدد أيام السنة 360 عيناً وغيلاً، لكن جفت الكثير منها ولم يبق منها سوى 60 عيناً نتيجة الحفر العشوائي للآبار الارتوازية التي تعاني منه المنطقة، وقد أوضح الكثير من أبناء المنطقة حاجتهم لبناء السدود سيما وأن المطقة غنية بالأمطار. من وادي طواحين الماء.. إلى وادي القات: نظراً لأن الأهجر زينتها الخضرة التي تكسوها، وحلتها غيولها الدائمة الجريان طوال العام، والذي أسلفنا عدد غيولها وعيونها فقد اشتهرت ببعضها، والتي كانت علامة مميزة لها، ومن أشهرها غيل المعين وغيل ورخان وغيل السنبة والمنبع وغيل الصرحة إلى غير ذلك من الغيول والعيون، والذي يعد أشهرها وأكبرها غيل الخلتبي مقصد كل زائر للأهجر، والذي ذكره الهمداني باسم الحبلة، ويطلق عليه القادمون من المناطق الأخرى بالشلال، الذي ينبع من جبل رأس الضلاع في شلال مستمر كان يستخدم أيام الحميرين لإدارة الطواحين، وكان من أشهر الطواحين في ذلك العهد، حتى أطلق على وادي الأهجر بوادي الطواحين، ولم يتبق اليوم آثار لتلك الطواحين نتيجة للانجرافات التي أحدثتها السيول. وقد اشتهرت الأهجر بالمحاصيل الزراعية المتنوعة التي من أهمها: البن والذرة الشامية والذرة الرفيعة وغيرها، إلا أن هذه المحاصيل والمزروعات تراجعت بسبب استحواذ شجرة القات على جانب كبير من المساحات المزروعة، والذي أضاف اسماً جديداً لهذا الوادي (وادي القات) نظراً لجودته ولاعتباره مصدراً أساسياً لدخل المواطنين في هذه المنطقة، والذي لا يستدعي الكثير من الجهد. من المسؤول؟: كثيرة هي الآثار التاريخية في منطقة الأهجر، والتي تحتاج إلى كثير من الدراسة والعناية، حيث رأينا الكثير من القلاع المحلقة في الجو تناجي السماء بأسرارها، وتتوشح بالغيوم منصوبة على أضيق المسالك وأوعر الأماكن، لم تزدها الأيام إلا شموخاً فوق شموخها، والتي يرجع تاريخ بناء بعضها إلى عصر الحميرين، والبعض الآخر إلى عصر الدولة الصليحية، والتي كانت حارساً إضافياً يحمي المنطقة إلى جانب حارسها الأصلي جبالها الشامخة. ومن أشهر تلك القلاع والحصون، حصن باب الأهجر، حصن الدرب، حصن نعمان، وحصن المذوب، وغيرها من الحصون إلا أن ما أدهشنا خرابها المنتشر وعدم الاهتمام بها، وكأن حالها ينطق عنها من المسؤول عن ترميمها وصيانتها وحمايتها من الدمار والخراب باعتبارها معلم من المعالم الآثرية. وما شد انتباهنا هو تسمية العديد من القرى باسم حجر، مثل: قرية حجر القصر، حجر مقسم، وحجر السلطان التي تنسب إلى السلطان عطيفة بن الصياد. وحينما سألنا مستضيفنا ودليلنا السياحي الزميل الإعلامي عبد العزيز يحيى الشيخ عن التسمية أخبرنا بأن السبب هو بناء دورها القديمة وحصونها على الصخور (الحجر). مواقع أثرية: ومن أهم هذه المواقع الأثرية حجر القصر أو محل الحصن حسب تسمية البعض، ويقع شرق قرية المحجر، فوق تل جبلي مرتفع قليلاً يتقدمه قاعٍ مستوٍ وواسع، وعلى الموقع أبنية مهدمة، ويتبين من خلال التقسيمات الداخلية للبناء، والكميات الهائلة من الأحجار وكسر الفخار المبعثر خارج الموقع، أن هذه الموقع كان على درجة كبيرة من الأهمية. كذلك حصن الصرحة، ويقع إلى الجهة الشرقية من قرية صرحة مباشرة، ويطل عليها من الجهة الغربية، وقد بني الحصن فوق مرتفع جبلي يرتفع حوالي 1900 متر عن سطح البحر محصن من ثلاث جهات ما عدا الجهة الجنوبية التي تتصل بسطح مرتفع جبلي أخر أكثر ارتفاعاً، وذلك عبر منحدر جبلي ضيق.. بني الحصن بمكعبات حجرية من الصخور الرملية ذات لون أبيض مائل للصفرة، وللحصن سور عالٍ بني على حواف الجبل لا يزال قائماً في ثلاث جهات ما عدا الجهة الشرقية، والذي تعرض للانهيار. المدخل الرئيسي فتح على الضلع الشمالي بفتحة معقودة بعقد نصف دائري، يؤدي إلى فناء مستطيل، يتوسط الحصن بناء دائري له ارتفاع مضاعف عن ارتفاع السور، وإلى الناحية الشرقية يوجد بناء مربع الشكل. وهناك خرابة تسمى المشروق تبلغ مساحتها حوالي 1900 متر مربع تقع إلى الجهة الشمالية الغربية من قرية حجر القصر، وإلى جانب هذه الخرابة توجد بعض المعالم الأثرية المتفرقة، مثل نوبة الأهجر المعروفة ب " السرة "، ويرتفع هذا الموقع عن سطح البحر حوالي 1500 متر، ويطل على وادي الأهجر من الجهة الجنوبية. كما يوجد موقع ماطرة إلى الغرب من قرية قارة، وإلى غرب الموقع يوجد جبل " عرضو"، والموقع عبارة عن مجموعة أساسات مباني البعض منها يرتفع عن مستوى الأرض حوالي متر واحد، ويغطي معظم هذا الموقع كتل حجرية من المكونات الأصلية للوحدات السكنية، والتي كان لها تخطيط مربع الشكل، حيث تدل المعطيات الأثرية بعودتها إلى العصر الحميري، هذا من جانب، بالإضافة إلى وجود نقش بخط المسند الغائر على صخرة تقع إلى جنوب الموقع، الكتابة بأسلوب المخربشات يتكون من سطرين وارتفاع الحرف ما بين 10 – 18 سم، وهذا النقش دليل آخر على قدم الموقع.. إلى الشرق من الموقع توجد بركة ماء دائرية الشكل، غطيت جدرانها بطبقة من القضاض. ومن هذه المواقع موقع الديار، وتقع على سطح منحدر من قاعدة جبل عرضو من الناحية الشرقية، ويحد الموقع من الشرق قرية قارة، ومن الجنوب موقع خرابة ماطرة في هذا الموقع بقايا أساسات مباني مبنية من الحجارة ( الصخور الرملية) يغطيها أكوام من الأحجار والأتربة. وربما كان موقع الديار مرتبطاً بموقع ماطرة سالف الذكر لقربه منه أو أنهما قد شيدا في نفس الفترة الزمنية. وقد أوضح الكثير من الأهالي وجود الكثير من الآثار والمقاصد السياحية المتفرقة كالعيون والقلاع والأبنية القديمة والأسوار أو تلك التي في باطن الأرض، والذي يدعي أهل الأهجر بأن بعض السياح الأجانب جاءوا وحفروا في إحدى هذه المواقع دون علمهم، ولم يعرفوا ماذا أخرجوا منه، ولكن هذه الحادثة أصبحت درساً لهم، حيث لم يسمعوا من قبل بوجود آثار وكنور في باطن الأرض. وهناك معلم آخر وهو الجامع الكبير، الذي يعد من المعالم التاريخية في المنطقة. لا شك أن رحلة قصيرة في الأهجر استمرت لنهار يوم واحد لم تكن كافية لإشباع فضولنا، ومحاولة معرفة كل شيء، ولكن ما ساعدنا على إتمام المهمة على نحو رضيناه هو ملازمة دليلنا الزميل الإعلامي عبد العزيز الشيخ، الذي يسر لنا المهمة، واستضافنا وأكرم وفادتنا كما هي عادة أبناء الأهجر، الذين استطاعوا أن يضيفوا إلى جمال الأهجر احتفالية خاصة بوجودنا معهم. الشمس تضيفت للغروب فأقفلنا عائدين من حيث أتينا، راسمين صورة من الصعب أن تمحوها الذاكرة، ومرددين أغنية الفنان المرحوم محمد حمود الحارثي من قصيدة الشاعر والأديب العلامة حسين علي حمود شرف الدين: سلام يا غوطة الأهجر وروضة بلادي يا خلدها والنعيم. متلكئين لفرصة أخرى قد تتاح لنا إلى هذه الروضة التي تحتضنها الجبال، وهي منتظرة لزوارها وضيوفها كما لوكانت على موعد مع حبيب، ما يعكس لكل زائر حميميتها التي تأصل في الوجدان العودة إليها ولو بعد حين.