اسكندر شاهر [email protected] أظن بأني أنتمي إلى جيل يمكن أن يُعرف ب (جيل الأزمة الأخلاقية) فلا أنا من جيل الثورة ولا من جيل الوحدة ولستُ بالتأكيد من جيل الديمقراطية ، لأنّ الأثوار ألغوا الثورة باكراً وحوّلوا الشعارات الثورية إلى منجزات "بقرية" ، والوحدويون مارسوا الانفصالية بأبشع صورها ، والديمقراطيون وبعد مضي ثلاثة عقود على حكم فردي لم تطرأ عليه أية عملية تداول سلمي أو غير سلمي ولا تغيير حقيقي أو مزيف ولا إصلاح شامل أو ناقص يطبّلون ويزمرون للتوريث بكل بجاحة .. والغريب أن بعضهم أعضاء في اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء فكيف يستقيم الأمر .. لستُ أدري ؟! . الأزمة الأخلاقية هي جوهر كل أزماتنا ، وهي من اتكأ عليها الحاكم وعوّل عليها كما لم يعوّل على شيء سواها ، ولأن أخلاقنا في معظمها مرتبطة بديننا فقد كان للورقة الدينية دور بارز في تمرير بعض القنوات اللاأخلاقية جلّها من روح فلسفة "إبن مسكويه" التي صاغها وفقاً لعلاقته بالحاكم ، فلا كان علماؤنا ورثة للأنبياء وقادوا مسيرة التغيير كما ينبغي لهم ، ولا اكتفوا بالوعظ والإرشاد ودور العبادة وتركوا الخلق للخالق ، بل تجد العلماء يقفزون دوماً بوثبة رئاسية كلما بدأ الناس يفكرون بالتغيير أو يكثرون من الحديث في السياسة عوضاً عن لهوهم الفارط في مناقشة طاعة ولي الأمر ، ونواقض الوضوء أو موجبات التيمم الذي بات أصيلاً في ظل أزمة المياه . المسألة كانت وبقيت متجاذبة ومتشابكة حد التماهي بين طرفي الحاكم وأرباب الدين وأوصيائه ، فكلاهما يرفضان فصل الدين عن الدولة ولهما مصلحة مشتركة في ذلك ، وأحدهما يحتاج إلى الآخر ليضفي لنفسه مشروعية ، كما أن طبيعة كليهما لم تسمح بأن يلغي أحدهما الآخر ، فضلاً عن أنهم يمارسون هذا اللهو في البيئة اليمنية التي توصف بأنها ميالة إلى التدين والالتزام الذي لم نعد نلمحه تديناً أو التزاماً ، إذ لم تتبلور رؤية واضحة عن هذا التدين بفعل التشويش الممنهج وتزييف الوعي وتسطيح المناهج إضافة إلى العامل الخارجي الذي أتى لليمن بما ليس منه في شيء ولا من طينته من أفكار ومذاهب وتيارات دينية وغير دينية مستغلاً فراغه السياسي والثقافي وأزمته الاقتصادية المتفاقمة والتي يُعد الفساد ( وهو واحدة من مخرجات الأزمة الأخلاقية ) محركها الأساس مهما ادعى المدعون فقرنا المدقع . ولئن كانت طبقة المثقفين أو ما يعرف ب (الانتلجنسيا) هي الأخرى ضليعة في الأزمة الأخلاقية فلأنها كانت نتاجها الباكر أولاً وأداتها تالياً ، فعندما يغرق الجميع في الوحل لا ينجو القادر على في اليمن .. تفعل اللامبالاة فعلها في تعويم الأزمات على اختلافها وهي واحدة من أهم روافع أزمتنا الأخلاقية ، ولا تكتفي أدوات الأزمة الأخلاقية مجتمعة بإفراغ الأصول من مضامينها بل تذهب أبعد من ذلك إذ لم يتم النيل فقط من أخلاقنا الدينية والمجتمعية و خصوصياتنا التقليدية وحتى العادات القبلية الأصيلة التي تحولت إلى النقيض فبدلاً من النجدة نجد الاختطاف ، بل جرى تكريس النقيض على أنه منتهى الأخلاق المحمودة ، ومن لا ينخرط في هذه الشبكة وفقاً للمصالح السائدة والتي باتت مقدسة فهو ممقوت من أسرته وقبيلته و مجتمعه فتتعدد أسباب موته باستثناء "القتل الرحيم" الذي لا يجد إليه سبيلا .. فهذا النوع الأجنبي من الموت لا يزال حراماً فيما تحتفظ الحروب المحلية المتنقلة القاتلة والمدمرة بحلّيّتها وفقاً لوجاهة الجهاد في سبيل الله والوطن والحاكم. تسود مصطلحات اللامبالاة شعبياً فكثيراً ما نسمع كلمات متداولة بين العوام من قبيل ( ما دخلني ) أو ( يسدوا ) أو ( مش شغلك ) أو ( طُز ) أو ( يقعوا فتّة ) أو ( يطيروا ملح ) وبمناسبة طيران الملح دعونا نطير من العوام إلى النخبة وتحديداً إلى طبقة المثقفين والكتاب والصحفيين ولنقرأ بعض مقاطع من مقال لكاتب يمني يكتب جيداً وأقرأ بعض ماكتب بعناية ، وأظن أنه مثلي ينتمي إلى جيل الأزمة الأخلاقية ، وسأستشهد بواحدة من مقالاته لمناسبتها لمقام الحديث ، ففيه يمكن أن نقرأ ملمحاً للحالة التي أوصلنا إليها الحاكم بأداة الأزمة الأخلاقية ، فقد كتب عبد الرزاق الجمل تحت عنوان ( يطيروا ملح ) مقالاً رشيقاً على لسان المواطن اليمني قائلاً : "كمواطن يمني، لن يحدث لي شيء، وكل ما تقدم لا يشكل خطراً على وضعي الخَطِر، فلستُ مسئولا، ولا تاجرا، ولا شيخا، وإنما مواطنٌ عادي لم يعتمد على حكومته يوما في شيء، حتى في إنصافه إن تعرض لظلم.. إنه بلد المسئولين، والتجار، والمشايخ، والمتمردين أيضا، وهؤلاء وحدهم من يجب عليهم تحمل مسئولية الدفاع عنه، لأن مصيرهم مرتبط بمصيره، أما مصيرنا فقد تحدد سلفا، وبئس المصير.. ويتابع " ليست هذه بنظرة أنانية. الأنانية أن تُحتكر خيرات البلد على جهات معينة، وطز في البقية، والبقية هم الأغلبية الساحقة، أو المسحوقة.. أتمنى أن يستثنوني عند حديثهم عن الشعب كما استثنوني عند توزيعهم لخيرات هذا الوطن.. لم تقدم الحكومة لهذا الشعب ما يجعله يخاف على البلد مما يمر به، حتى لو كان ما يمر به مخيفا فعلا، أي أن أي مصير لن يشكل فارقا بالنسبة له، فهو في الجحيم قبل أن يذهب هذا البلد إليه، إن ذهب.. ليذهب إلى الجحيم إذن.." ويختم " نفكر بأهمية الاستقرار العام، ونشارك في تحقيقه، عندما تكون أوضاعنا الخاصة مستقرة فقط ، وفي غير ذلك لا يهمنا شيء، استقر الوضع أو حلّ في سقر.. هذا هو المنطق (إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ*** نصيب ولا حظ تمنى زوالها) ولا حظ ولا نصيب لنا في هذه الدولة.." . صفوة القول : التغيير لن يحدث إلا من خلال جيل الأزمة الأخلاقية ذاته .. وهذا يعني أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية ولكن السؤال المطروح دوماً .. هل تبدأ الثورة سياسية فتنتهي ثقافية أم العكس ؟ وهذا ما قد نطرقه في (ظنون) أخرى علّنا نهتدي إلى اليقين . قال الشاعر : إنما الأممُ الأخلاق ما بقيتْ فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا ....