هل انعطفت فرنسا في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة الأمريكية؟هذا السؤال يشغل بقوة متابعي العلاقات بين البلدين هذه الايام.اما الانعطاف المقصود فيتصل بالتغيير الطارئ في المواقف الفرنسية من قضية العراق ومن القرار 1559 المتعلق بسوريا ولبنان والقضيتان أثارت شقاقاً واسعاً في القضية العراقية سجلت فرنسا تراجعاً اساسياً بالقياس الى مواقفها السابقة على الحرب وما بعدها.فمن المعروف ان باريس عارضت الحرب وهددت باستخدام حق النقض الفيتو ازاء محاولة الولاياتالمتحدة استصدار قرار من مجلس الأمن لتغطية اجتياحها العسكري للعراق. وطالبت باريس من بعد بانسحاب القوات الغازية وتحديد جدول زمني لانسحابها وتسليم السلطة للعراقيين في "اسرع وقت" ثم تبنت اقتراحاً روسياً بانعقاد مؤتمر دولي حول الأزمة العراقية ودعت لحضور ممثلين عن المقاومة في مؤتمر شرم الشيخ. واشترطت ان يصدر المؤتمر قرارا يعين بوضوح موعداً لخروج القوات المتعددة الجنسية من بلاد الرافدين..بيد ان سلسلة من التراجعات بدأت تلوح تدريجياً في المواقف السياسية الفرنسية من الازمة العراقية.ففي تعديل حكومي حصل في مطالع الصيف الماضي واستبدل خلاله وزير الخارجية السابق دومينيك دو فيلبان بالوزير الجديد ميشال بارنييه علماً ان الاول كان يرمز الى المجابهة مع واشنطن فيما الثاني يرمز للانعطاف المشار اليه ومن الملفت التذكير ان بارنييه اكد في اول تصريح رسمي بعد تعيينه على وجوب اخراج العراق من "الحفرة المظلمة" التي انتهى اليها بحسب كلام الوزير. وبدلاًِ من الاعتراض على الحرب صارت باريس تتحدث عن عدم قبولها بهزيمة عسكرية امريكية في هذا البلد وبدلاً من حرمان واشنطن من الشرعية الدولية وافقت على تشريع الحرب ونتائجها بقرار من مجلس الامن حمل الرقم 1546 وبدلاً من رفض الغاء الديون العراقية قبل تشكيل حكومة مستقلة وافقت على الغاء 80 % من هذه الديون وعوضاً عن التمسك بجدولة الانسحاب وتسليم السلطة فعلياً للعراقيين وافقت باريس على تعيين الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة إياد علاوي واعتبرته خطوة في الاتجاه الصحيح وقبلت بالبيان الصادر عن شرم الشيخ الذي خلا من اية اشارة للمقاومة ومن أي موعد للانسحاب الامريكي من العراق.في المحصلة بات الموقف الفرنسي متطابقاً الى حد كبير مع الموقف الامريكي ولم يبق من الرفض الفرنسي السابق سوى الامتناع عن ارسال قوات فرنسية الى هذا البلد..من جهة ثانية لعبت فرنسا دوراً حاسماً في اصدار قرار مجلس الامن الرقم 1559 الذي يطالب سوريا بالانسحاب العسكري من لبنان وتفكيك حزب الله والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية لتقطع باريس بذلك مع سياستها السابقة القاضية بمشاركة سوريا النفوذ في بيروت وذلك منذ العام 1996 عندما تمكنت باريس من الاشتراك في لجنة مراقبة اتفاق نيسان ابريل المعقود بين لبنان واسرائيل إثر عملية عناقيد الغضب..يفصح ما سبق عن انعطاف حقيقي في السياسة الخارجية الفرنسية.فما هي خلفية هذا الانعطاف وما هي اسبابه الموجبة؟ تستمد الحسابات الفرنسية الجديدة من الاعتبارات الاتي ذكرها: اولا:ضيق هامش المناورة في الاعتراض على السياسة الخارجية الهجومية الامريكية جراء اصرار واشنطن على التمسك بشعار " من ليس معنا فهو ضدنا" وبالتالي وضع العالم بأسره أمام معادلة "من ليس مع الاحتلال فهو بالضرورة مع المقاومة" أي مع ابي مصعب الزرقاوي بحسب التوصيف الامريكي للمقاومة العراقية وبالتالي مع القتال ضد امريكا.في هذه الحالة من الصعب على فرنسا ان تنحاز الى الخيار الثاني. ثانياً: اكتشفت باريس منذ مطالع الخريف الماضي ان الجبهة الثلاثية المناهضة الحرب اخذت بالتفكك تباعاً. فقد اعلنت روسيا على لسان فلاديمير بوتين عن دعم جورج بوش في الرئاسة الامريكية مع علمها التام بمشروعه العراقي. واكدت المانيا في مناسبات عديدة آخرها في "نادي باريس" رغبتها في التقارب مع امريكا وسرعان ما استجابت للمطلب الامريكي بخفض الديون العراقية بنسبة 80 % مخالفة الرغبة الفرنسية القاضية بخفض هذا الدين بنسبة 50 % فقط. ومع تفكك جبهة الاعتراض على الحرب لم يعد أمام فرنسا سوى الانصياع للواقع القاهر وبالتالي التقارب مع واشنطن.. ثالثاً:كانت فرنسا تهيء للمصالحة مع الولاياتالمتحدة بعد الانتخابات الرئاسية بغض النظر عن الفائز فيها الامر الذي يفسر حماسها في استصدار القرار رقم 1559 الذي يطالب سوريا بالانسحاب من لبنان. وقد حمل هذا القرار السوريين على التعاون مع واشنطن في ضبط الحدود السورية العراقية وتهدئة الموقف العسكري على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية حيث تتمتع دمشق بنفوذ واسع في الجبهتين.ما يعني ان باريس قدمت خدمة ذهبية لخصمها الامريكي عن سابق تصور وتصميم. رابعاً:ضيق هامش المناورة الدولي للاعتراض على حرب العراق، فالنزعة الامريكية الحادة والضغوط الامريكية الكثيفة على المؤسسات الدولية جعلت مجلس الامن معيناً لواشنطن وسندا لسياستها خوفاً من التهميش وربما الانهيار والعزلة ومع ضمور الشرعية الدولية فقدت فرنسا هامش المناورة وبات عليها ان تعيد النظر بمواقفها من الحرب ومجرياتها ونتائجها. خامساً :كان يمكن لباريس ان تعتمد على الاتحاد الاوروبي سوى ان الاتحاد يحتاج لبعض الوقت لكي يتمكن من دمج اعضائه العشرة الجدد وللمصادقة على الدستور الاوروبي الجديد الامر الذي يعطل دوره كمعترض فاعل على السياسة الامريكية الهجومية ناهيك عن وجود بريطانيا كقطب فاعل في الاتحاد وقدرتها على منعه من انتهاج سياسات من شأنها ان تعمق ورطتها العراقية لهذه الاسباب مجتمعة انعطف الموقف الفرنسي نحو التقارب مع الولاياتالمتحدةالامريكية.. فهل تكافأ باريس على انعطافها؟ حتى الآن لم تحصل من واشنطن إلا على اعلان نوايا بالانسحاب من العراق اوآخر العام 2005م وعلى نية غامضة بتجاوز الخلاف السابق على الحرب فهل تكفي النية؟ اليست ارض" جهنم مبلطة بذوي النوايا الحسنة؟!!