إلى علي عبد المغنى الذي جنب بلاده في يوم واحد مائة عام من العزلة والظلام الدامس. كيف يمكن وصف ما حدث يوم 26 سبتمبر عام 1962 في اليمن؟ هل وقع انقلاب عسكري سطحي وطارئ يومذاك أم اندلعت ثورة حقيقية غيرت وجه هذا البلد وسجلت انعطافة حاسمة في مصيره؟هذا السؤال ما انفك يطرح، في كل مرة يدور نقاش حول سقوط النظام الإمامي وقيام النظام الجمهوري في العربية السعيدة. قبل الإجابة عن السؤال يجدر بنا تفحص معنى الانقلاب ومعنى الثورة، ومن بعد قياس ما حصل في اليمن على المعنى المحدد للمصطلحين.. الثورة في تحديدها السياسي العام تعني قلب نظام حكم القائم وتثبيت نظام حكم مختلف جذريا -أي تغيير القوانين والأنظمة والمؤسسات القائمة وتشكيل مؤسسات وأنظمة وقوانين جديدة مختلفة- وتقوم الثورة لخدمة مصالح فئات متضررة من النظام السياسي المستهدف و يقوم الثوريون بتثبيت أركان دولة جديدة لخدمة الثوريين وما يمثلون.. وعموما يشترك الشعب أو الجمهور في العمل الثوري بطرق مختلفة وليس بالسلاح وحده على ما يتبادر للذهن للوهلة الأولى، لكن الثورات ليست مظفرة على الدوام ولا تحقق الأهداف التي رفعتها على الدوام بل يمكن أن تكون الثورة مغدورة ومجهضة على ما يصف ليون تروتسكي الثورة الروسية البلشفية في العام 1917 وقد تكون الثورة عملا تخريبيا كاملا لحضارة قائمة كما هي الحال في الثورات التي اندلعت ضد الخلافة العباسية وتسببت في تدمير إنجازات قرون من حضارة العرب حتى القرن العاشر. ولوصف وجهي الثورة المذكورين يقول بول فاليري(قد تحقق الثورة في يومين عملا يحتاج تحقيقه إلى مائة عام وقد تضيع في عامين إنجازات عمرها خمسة آلاف عام" بهذا المعنى ليست الثورة عملا ايجابيا دائما وليست عملا سلبيا دائما وبالتالي تتحدد قيمتها في ضوء إنجازاتها. والثابت ان القياس الثوري في بلداننا العربية وربما في العالم اجمع يستند إلى الثورة الفرنسية البورجوازية التي تعتبر بحق أم الثورات في العالم وبصورة خاصة الثورة البلشفية.ومن الواضح أن ثورة العام 1789 الفرنسية قد ألغت النظام الملكي بكل ما يمثله ووضعت مكانه نظاما بورجوازيا وضربت الكنسية والإقطاع وحققت ثورات جدية في مجالات السياسة والفكر والاقتصاد والمجتمع إلى درجة يمكن معها القول: إن فرنسا ما قبل الثورة تختلف اختلافا جذريا عن فرنسا ما بعد الثورة. ويصح الوصف نفسه على الثورة الروسية التي أطاحت بالنظام القيصري واستطاعت أن تحكم نصف العالم خلال الشطر الأكبر من القرن العشرين. لا يختلف الانقلاب في جوهره عن الثورة فهو يرمي إلى قلب هرمية منظمة وتشييد هرمية مختلفة بديلة إلا انه كما الثورة قد يكون سلبيا وسطحيا وقد يكون ايجابيا وجذريا، ما يعني ان قياس حالة الانقلاب يتم من خلال الأهداف التي رفعها والأغراض التي حققها وما إذا كانت متناسبة مع تلك الأهداف أو بعيدة عنها وهو بهذا المعنى شبيه بالثورة بل متداخل فيها. و الشائع في ثقافتنا السياسية العربية أن الناس يعتقدون أن الانقلابات العسكرية لا تستحق وصف الثورة والتمييز بينهما ناجم عن كثرة الانقلابات العسكرية المجهضة التي انتشرت في عالمنا العربي والتي رافقها كلام ثوري كبير ولم تتمخض عنها نتائج ثورية تذكر وغالبا ما كان الانقلابيون يكتفون بتنصيب عسكري في الحكم بدلا من عسكري آخر أو بدلا من رئيس منتخب الأمر الذي جعل مصطلح الانقلاب ينحدر في بلداننا إلى الحضيض. بالمقابل ترى الناس يفتخرون بالثورة الفلسطينية المستمرة أو بثورة عرابي وسعد زغلول في مصر وثورة الريف في المغرب والثورة الجزائرية ولعل الافتخار ناجم ليس عن إنجازات هذه الثورات وإنما عن اشتراك الشعوب والجموع فيها، وإذا كانت ثورة الجزائر قد حققت إنجازا تاريخيا هو طرد استعمار معمر منذ قرن وثلث القرن فانه من الصعب رؤية الإنجازات المنسوبة لثورة عرابي وسعد زغلول بمواجهة ذلك نرى أن انقلاب يوليو عام 1952 في مصر هو ثورة حقيقية تمكنت من قلب مصر والعالم العربي والعالم الثالث رأسا على عقب وهي ما زالت حتى اليوم هدفا لهجمات مشينة من طرف الذين الحقت هزيمة بهم ومن المؤسف القول إن المتضررين من يوليو 1952 نجحوا في ترويج الصفات السلبية للانقلاب المصري والانقلاب عموما الأمر الذي انعكس سلبا على الثورات الانقلابية الناجحة في بلدان عربية ومنها اليمن : فهل ينطبق وصف الثورة على 26 سبتمبر 1962 أم وصف الانقلاب. يقول الدكتور محسن العيني في حلقة ذكريات في قناة الجزيرة: إن سبتمبر انقلاب كانت له نتائج ثورة. ويستشف من التمييز في حديثه بين الانقلاب والثورة انه يميل إلى التصنيف الذي اشرنا إليه للتو. أي الانقلاب سيء والثورة جيدة. ويظهر لي أن التمييز الذي ينطوي على السلب والربط الذي يضمر الإيجاب يشي بخبرة الدكتور العيني الدبلوماسية الطويلة ومهارته في التعبير ولربما إدراكه أن الثقافة السياسية لجمهور القناة القطرية تتضمن تقديرا ايجابيا للثورات وتقديرا سلبيا للانقلابات في حين أن الجمهور اليمني ربما لا يشغله التصنيف المذكور لثورته باعتبار انه عاش ويعيش ثورة انقلابية حقيقية لم يقصر رئيس الوزراء اليمني الأسبق في وصف ملامحها الاساسية. في ضوء ما تقدم يمكن القول بلا تردد: إن ما حصل في 26سبتمبر 1962 هو ثورة كاملة الأوصاف كان العسكريون في طليعتها و الشعب اليمني في كافة تضاعيفها. أما لماذا تولى العسكريون الطليعة ولماذا اتخذوا المبادرة فذلك ناجم عن تنظيم المجتمع اليمني في العهد الإمامي حيث الشعب لم يكن ممثلا في أي من مؤسسات الدولة ما خلا المؤسسة العسكرية ولم يكن مؤطرا في أحزاب ومنظمات اجتماعية ولم يكن يحتل موقعا مهما في الاقتصاد ولم تتبلور في وسطه طبقة بورجوازية كما هي الحال في فرنسا الملكية وروسيا القيصرية وبدا أن الطرف الوحيد القادر على المبادرة الثورية الانقلابية هو مجموعة العسكريين الشجعان الذي يتحدرون من فئات شعبية مسحوقة تماما كزملائهم ثوريي يوليو في مصر فكانوا المبادرين وصدقت مبادرتهم عندما وفر لهم الشعب الحماية واشترك بالدفاع عن ثورته في مصر عام 1956 وفي اليمن خلال الحرب الطويلة ضد الملكيين وحماتهم وبصورة خاصة خلال حرب السبعين. لقد أطاحت الثورة اليمنية الانقلابية بعالم الإمامة السياسي الكئيب و المظلم وأرست عالما يمنيا جديدا لا يجادل في نوعيته و أهميته إلا قلة ضئيلة من منتسبي النظام السابق وهؤلاء لا قيمة تذكر لادعاءاتهم وطروحاتهم التي تنتمي إلى صفحة قاتمة من التاريخ طواها اليمنيون مرة واحدة والى الأبد.