من الصعب أن نعثرعلى مسؤول أمريكي رفيع المستوى يكره ويحب وسائل الإعلام بالقدر نفسه كالسيد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع وقائد حرب أفغانستان والعراق. أما الكره فقد وصل إلى حد الدعوة إلى قصف قناة الجزيرة الفضائية كما ورد في وثيقة أل " ديلي ميرور" البريطانية التي ما برحت حكومة طوني بلير ترفض الإفصاح عنها وتهدد الصحف المحلية التي تسول لها نفسها البحث في خباياها. وأما الحب فقد وصل إلى حد استضافة صحافيين متعددي الجنسية في دبابات أمريكية أثناء احتلال العراق. بيد أن كره السيد الوزير لم يقتصرعلى الكلام وحده فقد أشارت تقارير صحفية أجنبية وعربية أن قواته قصفت عمدا مكتب "الجزيرة" في كابول وأنها أطلقت النارعن سابق تصور وتصميم على مكتبها في بغداد ما أدى إلى سقوط مراسها طارق أيوب ناهيك عن إطلاق النارعلى الصحافيين في فندق فلسطين وسقوط بعضهم بين جريح وقتيل ومنهم صحافي أسباني تقاضي اليوم عائلته الولاياتالمتحدة وترفض قبول اعتذارها. وبما أن عسكر رامسفيلد يشاطره الشعور نفسه فمن السهل تخيل دبابة أمريكية تقتل الصحافي الفرنسي (باتريك بورا) دهساً في الكويت عشية الغزو فضلا عن إطلاق النار بخفة مدهشة على موكب الصحافية الإيطالية (سيغرينا) بعد ساعات من الإفراج عنها من طرف خاطفيها في بغداد ما أدى إلى أصابتها بجروح بليغة ومقتل ضابط إيطالي كان يتولى مرافقتها إلى مطار بغداد الدولي. ويبدو أن كره السيد الوزير لوسائل الإعلام يترافق مع احتقار للإعلام العربي وللعراقي بخاصة فها هو يعترف علناً بأن إدارته رشت صحافيين ومولت صحفا عراقية كي تكتب مقالات "إيجابية" عن الاحتلال قال ذلك دون أن يرف له جفن ودون أن تثير أقواله حفيظة كتاب "المارينز" العرب وكتاب الجمعيات " غير الحكومية ...كذا" الذين يطنطنون يوميا في آذاننا عبارات الحرية والديموقراطية على الطريقة الأمريكية والمرشحة للانتقال إلى بلداننا على ظهور الدبابات . وإذا كان الوزير رامسفيلد يحتقر - إلى هذا الحد - وسائل الإعلام في العراق مع أنه شهد " فجر حرية الصحافة" يوم احتلاله بحسب تصريح شهير للسيد (روبير مينار) المشرف على منظمة" صحافيون بلا حدود" فإن الإدارة الأمريكية ليست بعيدة تماماً عن تصور وزير دفاعها فهي ترى أن الرأي العام العربي بحاجة إلى إعلام ناطق بالعربية من واشنطن وليس من الدوحة أو دبي أو بيروت أو القاهرة أو صنعاء وان "الحقيقة" تكون أمريكية أو لا تكون وتعتبر أن كل ما ينشر في العالم العربي بواسطة إعلاميين عرب لا يعبر عن الحقيقة بل ينطوي على كره للولايات المتحدة والغرب ( الأصح للاحتلال الأمريكي) ومن أجل ذلك مولت واشنطن قناة فضائية باللغة العربية وإذاعة تقول صحيفة "لوموند" الفرنسية أن العمل فيها يحتاج إلى إذن من وكالة الاستخبارات "سي. أي. إي " وليس من نقابة الصحافة الأمريكية. هذا الهوس المفرط بالإعلام سيصل إلى ذروته عبر تصريح طازج للوزير الأمريكي يرى فيه أن "الأرهاب" متفوق على الإعلام الأمريكي في وسائل النشر والدعاية رغم "إمكاناته المحدودة" وأن على واشنطن أن تتعظ بهذا الدرس وتعمل في ضوئه. لكن ماذا تفعل أكثر مما فعلت حتى الآن؟ إنها تملك محطات ووسائل إعلام أمريكية ناطقة بالعربية وتتمتع بتأييد عدد كبير من وسائل الإعلام العربية المهمة و تستفيد من حياد بعضها الآخر وتسيطر هي وحلفاؤها على أكثر من 90 بالمئة من مصادر الأخبار العالمية عبر وكالات رويتر وإي بي وأ . ف. ب ويو بي . وغيرها. أضف إلى ذلك أن وسائل الإعلام الأمريكية العملاقة ما زالت حتى الآن تتقيد بتعليمات البيت الأبيض فيما يتصل بحربي العراق وأفغانستان وتمتنع بالتالي عن نشر كل ما يمكنه أن يضر بمعنويات الجنود الأمريكيين في البلدين ناهيك عن أنها ارتضت أن تلعب مع السيد رامسفيلد لعبة الحرب فكان أن التحق مراسلوها بالوحدات العسكرية الأمريكية أثناء احتلال العراق ونقلوا ما قالته وزارة الدفاع أي وقائع انتصارها العسكري على القوات العراقية المنهكة بفعل حصار دولي طويل دون نقد يذكر بل بفرح غامر عبر عنه كبير الصحافيين (دان راذر) مفتخرا من على شاشة محطته بعظمة بلاده في تغطية مباشرة من بغداد المحتلة ومثله فعل وما زال يفعل كثيرون. لا يمكن للسيد دونالد رامسفيلد أن يفعل في المجال الإعلامي أكثر من ذلك ما أنه سيكون من الآن فصاعدا أمام احتمالين: الأول: وهو الأسوأ أن يضغط على الدول العربية من أجل أن تعود إلى ما قبل حرية الصحافة وأن تراقب ما ينشر في وسائل الإعلام وتسيطرعلى بث الفضائيات العربية وهو يكفل عدم انتقادها من الجمعيات غيرالحكومية ومنظمات الدفاع عن حرية الصحافة وذلك بحجة مكافحة الإرهاب والتطرف وفي هذه الحالة يصبح الرأي العام العربي موجها من طرف وسائل إعلام محلية وأمريكية وغربية ناطقة بالعربية ويكثر الكتاب العرب الذين يكتبون مقالات "إيجابية" عن احتلال العراق وأفغانستان وإن رفضت الدول العربية يمكن العمل على إقفال وسائل الإعلام العربية الحرة بوسائل أمريكية مباشرة عبر احتلالها بحجة نشر الإرهاب دون الحاجة إلى قصفها بالمدافع على قياس ما ورد في "الديلي ميرور" الثاني: وهو الأفضل أن يغيرالسيد رامسفيلد "بضاعته" غير القابلة للتسويق في العالم العربي وبالتالي أن يكف عن رشوة صحافيين وكتاب يدبجون مقالات مؤيدة لحكومته وتغيير "البضاعة" يستدعي بالضرورة الانسحاب من العراق و الضغط على الصهاينة للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة والكف عن تهديد الدول العربية بمعارضيها وتمويلهم والتعامل مع العرب بوصفهم أمة جديرة بالاحترام وعدم الاستخفاف بهم إلى درجة الظن بأنه من السهل غسل عقولهم بمقالات "إيجابية" تساوي حفنة من الدولارات. في النصف الثاني من القرن العشرين لم تكن قناة الجزيرة موجودة وكانت الجزائر تضم أكثر من مليون مستوطن أوروبي ومليون جندي فرنسي ونصف مليون جزائري يقاتلون مع الجيش المحتل مقابل أقل من ستة ملايين جزائري ومع ذلك لم تتمكن فرنسا من الانتصارعلى المقاومة الجزائرية وكان جنرالاتها يحملون "صوت العرب" القاهرية مسؤولية المقاومة ويتخيلون أن قصف أو إسكات هذه الإذاعة يبقي الاحتلال ويوقف عجلة التاريخ إلا جنرال واحد هو شارل ديغول كان يعرف أن بلاده خسرت الجزائر وان عليها أن ترحل وان تغير نوع تعاملها مع العالم العربي وهو ما حصل بالفعل وها هي فرنسا تتمتع باحترام وثقة العرب حتى اليوم على الرغم من الكثيرالكثير من مواقفها السلبية. ربما على السيد رامسفيلد أن يسيرعلى خطى الجنرال ديغول الذي عرف في الوقت المناسب أن الانتصار في الحرب لا يتم بالمزاج المتعكر ولا بالقوة المسلحة وحدها وإنما أولاً وأخيراً بقابلية أوعدم قابلية العدو للخضوع. لن يخضع العراقيون ولن يخضع العرب إذن على السيد رامسفيلد أن يسيرعلى خطى الجنرال ديغول وأن يكف عن الافتراض أن عجلة التاريخ يمكن أن ترجع إلى الوراء إذا ما كفت الجزيرة عن البث.