من يستفيد من استمرار المواجهة في قطاع غزّة؟ وهل يمكن اعتبار التصعيد سياسة أو بديلاً من السياسة؟ الثابت حتى الآن أنّه بات على الحكومة الاسرائيلية البحث عن مشروع بديل لذلك الذي تسعى الى تنفيذه، ذلك انّه بعد اسبوعين من العمليات المستمرة، يتبيّن أن الانسحاب الاحادي الجانب من غزة لم يكن أنجازاً بمقدار ما أنه مشروع عقيم لا حياة له. وكان كافياً خطف جندي اسرائيلي في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، كي يثبت أن مشروع فرض حلّ من جانب واحد لا أفق له. لقد صوّر أرييل شارون للاسرائيليين أنه وجد الصيغة السحرية للتخلّص من الشعب الفلسطيني عن طريق تنفيذ سياسة الانسحابات من جانب واحد بدءاً بغزة. استطاعت اسرائيل تنفيذ الانسحاب من غزة ولم يستطع الشعب الفلسطيني التعاطي مع مرحلة ما بعد الانسحاب وتوظيفها في مصلحته. على الرغم من ذلك، يتبيّن مع الوقت أن المشروع الذي وضعه أرييل شارون والذي يتابع خليفته أيهود أولمرت تنفيذه ليس ذا طبيعة عملية. متى جاء وقت استكمال المشروع، صار المشروع مرتبطاً بالفشل ليس ألاّ. ثمة حاجة الى أخذ طموحات الشعب الفلسطيني في الاعتبار في حال كان مطلوباً تحقيق تسوية قابلة للحياة. في غياب مشروع للتسوية يلبي حداً معقولاً من الطموحات الفلسطينية، لن تجد اسرائيل أمامها سوى التصعيد العسكري. انّه تصعيد لا مبرر له ما دام ليس معروفاً الأفق السياسي الذي يصبو اليه. صحيح أن لعبة السلاح هي اللعبة المفضّلة لدى الحكومة الاسرائيلية، لكن الصحيح أيضاً أن هذه اللعبة لا معنى لها في حال كان التصعيد من أجل التصعيد وليس من أجل تنفيذ مشروع سياسي محدّد المعالم. في النهاية ماذا حققت اسرائيل من سياسة القرارات التي تنفّذها من جانب واحد والمبنية على فرضية خاطئة تتمثّل، من وجهة نظرها، بعدم وجود شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه؟ حققت السياسة الاسرائيلية سلسلة انتصارات لكلّ قوى الطرّف في المنطقة من اسرائيلية وعربية وغير عربية. أنها قوى لا همّ لها سوى نسف فكرة التسوية من اساسها. هناك اسرائيليون يحلمون ب«اسرائيل الكبرى»، وهناك عرب من «حماس» وغير «حماس» يتخيّلون ان في الامكان ازالة الدولة اليهودية من الوجود وأن في الامكان أيضاً تحرير فلسطين، كل فلسطين، من النهر الى البحر. وهناك قوى غير عربية في المنطقة تظنّ ان استمرار النزاع العربي - الاسرائيلي الى ما لا نهاية فرصة لا تعوّض لاضعاف المجموعة العربية ككل ومنعها من تشكيل تكتّل اقليمي ذي بعض الوزن. تدفع اسرائيل، التي تمارس الارهاب ولا شيء غير الأرهاب في غزة والضفة الغربية، ثمن سياسة غير واقعية بدأت مع وصول آرييل شارون الى السلطة بفضل العمليات الانتحارية التي نُفّذت في مرحلة معينة. تكفّلت تلك العمليات في حينه بجعل المجتمع الاسرائيلي ينكفئ على نفسه وينسى ان هناك شيئاً أسمه العملية السلمية. واستطاع أرييل شارون «ملك اسرائيل» غير المتوّج بين العامين 2001 و2005 قلب كل الحقائق وتزويرها. لم يستفد شارون الذي دخل منذ أشهر عدة في غيبوبة لن يخرج منها، من العمليات الانتحارية ل»حماس» ومن لفّ لفها فحسب، بل استطاع أيضاً توظيف أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في مصلحة سياسة ترفض الاعتراف بأن هناك شعباً فلسطينياً محروماً من ابسط حقوقه. وذهب في سياسته، التي تُدخل الحرب الظالمة التي يشنها على الشعب الفلسطيني في سياق الحرب على الارهاب، الى أبعد ما يمكن أن يذهب اليه اليمين الاسرائيلي عندما انقلب على اتفاق أوسلو مصرّاً على الغاء كلّ مفاعيل الاتفاق الذي سمح لياسر عرفات بأن يكون أول زعيم في تاريخ الشعب الفلسطيني يستعيد ارضاً، في حين من عادة الزعماء الفلسطينيين خسارة الأرض. هناك مآخذ كثيرة على أوسلو الذي يظلّ دون طموحات الشعب الفلسطيني، إلاّ أنّ للاتفاق ميزة مهمة، أضافة بالطبع الى أنه يتضمّن اعترافاً متبادلاً بين الحكومة الاسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. تكمن هذه الميزة في أنّه يمهد لاتفاقات أخرى مبنية على بناء الثقة بين الجانبين. ما فعله أرييل شارون هو تدمير للأسس التي قام عليه الاتفاق عن طريق استعادة الأرض التي أنسحبت منها اسرائيل والعمل على ألاّ تقوم قيامة للسلطة الوطنية الفلسطينية. كان وضع ياسر عرفات في الاقامة الجبرية أفضل تعبير عن سياسة الهدم التي أتبعها شارون. ولو كان التخلّص من الشهيد ياسر عرفات الهدف الوحيد لهذه السياسة، لما أستمرّت بالشراسة ذاتها بعد انتخاب السيّد محمود عبّاس (أبو مازن) رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية. وما لا بدّ من التذكير به هنا، أن «أبو مازن» الذي تحملّه حكومة أولمرت مسؤولية عملية الخطف التي حصلت انطلاقاً من غزة، أنتُخب رئيساً بالاقتراع الشعبي المباشر استناداً الى برنامج سياسي واضح يعتبر عسكرة الانتفاضة كارثة على الشعب الفلسطيني ويدعو الى تسوية عن طريق المفاوضات... في غزة، تدفع اسرائيل حالياً ثمن حربها على السلطة الوطنية الفلسطينية وعلى «أبومازن» بالذات، أنّها حرب أدت عملياً الى انتصار «حماس» في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أُجريت بموجب أتفاق اوسلو، أو على الأصحّ ما بقي من أوسلو. ظنّت الحكومة الاسرائيلية أنها ستكون المستفيد الأوّل من من حصول «حماس» على أكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني ومن تمكّن الحركة التي ترفض التفاوض مع اسرائيل أو الاعتراف بها من تشكيل حكومة، ذلك ألا شيء يناسبها أكثر من طرف فلسطيني يتّبع السياسة نفسها القائمة على مقولة ألا وجود لشريك يمكن التفاوض معه. نسيت الحكومة الاسرائيلية أن «حماس» مضطرة الى دعم سياسة الرفض التي تمارسها باعتماد مزيد من التصعيد. وفي غياب النيّة لشن عمليات انتحارية لأسباب لا تخفى على أحد، في مقدّمها أن «حماس» لا تستطيع اعلان مسؤوليتها عن مثل هذه الأعمال والسعي الى أقامة علاقات مع أية دولة ذات وزن في العالم في الوقت ذاته، لم يعد أمام «حماس» سوى اعتماد نوع آخر من التصعيد. فالحركة التي تسيطر على الحكومة الفلسطينية منذ أشهر قليلة، لم تعد قادرة على بلورة مشروع سياسي ذي معنى ولم تكن في الأصل قادرة على ذلك، في حين حشرتها الرئاسة الفلسطينية في الاستفتاء على وثيقة الأسرى الذي حدّد موعده في السادس والعشرين من الشهر لجاري ووضعتها في زاوية. تدفع اسرائيل حالياً ثمن اضطرار «حماس» إلى ممارسة عملية هروب الى أمام في مواجهة استحقاق الاستفتاء. وتدفع خصوصاً ثمن سياسة رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية والعمل على تدميرها واصرار على ألاّ وجود لشريك فلسطيني. كان طبيعياً أن تنتهي السياسة التي وضعها شارون والتي يتمسك بها أولمرت الى الوضع الراهن. ما هو غير طبيعي ألاّ تكون اعادة نظر في هذه السياسة التي تدعو الى التجاهل الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني من منطلق ألاّ حقوق سوى للاسرائيليين. هذه السياسة أفلست، إلاّ اذا كان هناك في اسرائيل من يعتقد أن التصعيد في حدّ ذاته سياسة. في أي مكان من العالم، تكفّل التصعيد في حل نزاع سياسي؟ كلّ ما يمكن قوله أن التصعيد من دون أفق سياسي يقود الى الهاوية. لقد اختبرت اسرائيل كلّ أنواع التصعيد. لم يعد أمامها سوى حلّ واحد هو اعتماد لغة أخرى وسياسة أخرى... من منطلق أن هناك شريكاً فلسطينياً وأن هذا الشريك الذي يمكن التفاوض معه أفضل رد على كلّ من يريد القضاء نهائياً على العملية السلمية أكان اسرائيلياً أو فلسطينياً أو عربياً أو غير عربي! مثل هذا الموقف الشجاع يحتاج الى رجال وليس الى أشخاص من أمثال أيهود أولمرت لا يستطيعون الهرب من الواقع سوى عبر اعتماد التصعيد العسكري ولا شيء غير التصعيد العسكري...وكأنّ التصعيد يمكن أن يعتبر سياسة!