أسوأ السيناريوهات هو الذي بدأت مشاهده الأولى في الصومال باندلاع الحرب بين المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية. ويكتسب هذا السيناريو إبعادا كارثية بسبب ترشحه للتحول إلى فوضى شاملة تعم الأراضي الصومالية، وتسبب انفجاراً إقليميا في منطقة القرن الأفريقي بكامله، فتجهز على ما تبقى من آمال الاستقرار في هذه المنطقة التي ظلت تعاني على مدى عشرات السنين من النزاعات والحروب وموجات الجفاف والمجاعات والكوارث. لقد رحب الكثيرون، بما فيهم الحكومة الانتقالية الصومالية، بالانتصارات التي حققتها المحاكم الإسلامية الصومالية في منتصف عام 2006م الجاري على أمراء الحرب، وإخضاعهم للعاصمة مقديشو لإدارة واحدة لأول مرة منذ بدء الحرب الأهلية الصومالية المدمرة في 1991م بعد سقوط نظام الرئيس الصومالي الأسبق سياد بري. وقبل ذلك كان الصوماليون والمجتمع الدولي قد استقبلوا بتفاؤل كبير، نتائج مؤتمر نيروبي للسلام في الصومال الذي دارت مفاوضاته في الفترة من 2002- 2004م بمشاركة مختلف الفصائل والقبائل الصومالية. وخرج بإعلان مبادئ المصالحة الصومالية، والميثاق الوطني الانتقالي، الذي تم بموجبه تكوين البرلمان الصومالي الحالي واختيار أعضائه، وانتخاب فخامة عبد الله يوسف أحمد رئيسا مؤقتا لجمهورية الصومال. . ووفقاً لهذين الحدثين أصبحت الساحة الصومالية ابتداء من منتصف عام 2006م تضم طرفين رئيسيين، هما المحاكم الإسلامية التي بسطت سيطرتها على مقديشو وأجزاء أخرى كبيرة من البلاد، والحكومة الانتقالية التي تتخذ من مدينة بيداوه مقراً لها. مفاوضات متعثرة لتحاشي الصراع وانفجار الموقف بين المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية، أطلقت اليمن في يونيو 2006م مبادرة لتبني حواراً بين الطرفين أعلن الرئيس الصومالي عبد الله يوسف أحمد في 18 يونيو الموافقة عليها بشروط. ثم وبمبادرة من الجامعة العربية تبنى السودان باعتباره الرئيس الحالي لدورة الجامعة العربية وساطة بين الطرفين انعقدت بموجبها جلستين من الحوار بين المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية. ووقع الطرفان في الجولة الأولى التي انعقدت في 22 يونيو اتفاقية نصت على الاعتراف المتبادل بينهما وإيقاف الحملات العسكرية والإعلامية ومواصلة الحوار. أما في الجولة الثانية التي انعقدت في الفترة من 2- 6 سبتمبر الماضي فقد وقع الطرفان اتفاق سلام مؤقت بينهما يدعو إلى تشكيل قوت مسلحة مشتركة، وينص على تعهدهما بعدم مقاتلة بعضهما البعض، والتعايش السلمي مع البلدان المجاورة. والاتفاق على عقد جلسة مفاوضات ثالثة بينهما لبحث تقاسم السلطة والترتيبات الأمنية. ورغم النصوص المثالية التي تضمنتها هذه الاتفاقات، إلا أن الأمر على ارض الواقع ظل يشهد حالة مستمرة من التدهور الأمني والتوتر بين الطرفين والعديد من التعقيدات والصعوبات. وبسبب ذلك كانت الجولة الثانية من مفاوضات الخرطوم قد تأجلت لنحو شهرين بسبب اتهام الحكومة للمحاكم بخرق اتفاق وقف إطلاق النار. وإعلان المحاكم مقاطعة المفاوضات بدعوى أن هناك قوت إثيوبية دخلت إلى الصومال وينبغي انسحابها أولا. وأدت الاتهامات والاعتراضات المتبادلة بين الطرفين إلى فشل انعقاد جولة المفاوضات الثالثة التي كان من المقرر عقدها في 30 أكتوبر الماضي.. وفي هذه الأثناء كان الوضع قد ازداد تعقيداً بسبب تدهور الأوضاع الأمنية على الأرض، وظهور خلاف واضح بين الرئيس الصومالي عبد الله يوسف ورئيس الحكومة الانتقالية علي محمد جيدي من جهة، ورئيس البرلمان شريف حسن شيخ أدم الذي أظهر اتفاقاً واضحاً مع بعض أطروحات المحاكم ومطالبها. وبادر بعقد لقاءات والتوصل إلى اتفاقيات معها، رفضها يوسف وجيدي. جهود اليمن تتواصل في هذه الأثناء واصلت اليمن والجامعة العربية والأمم المتحدة جهودهم لمنع انفلات الوضع في الصومال.. وضمن ذلك زار الرئيس الصومالي اليمن في نوفمبر المنصرم. ثم زارها رئيس البرلمان شريف آدم ورئيس المجلس التنفيذي للمحاكم الشيخ شريف شيخ أحمد بدعوة من القيادة اليمنية، وقد نجح فخامة الرئيس علي عبد الله صالح في رعاية اتفاق جديد بين الطرفين وقعه آدم وأحمد بمدينة عدن في 13 ديسمبر الجاري. وتضمن ذلك الاتفاق بنوداً لو تم الالتزام بها لضمن الصوماليون عودة الاستقرار والسلام إلى ربوع بلادهم المنكوبة. فقد نصت تلك البنود على تمسك المحاكم بالحوار مع الحكومة، ووقف أية تحركات تقود إلى مواجهات مسلحة من قبل أي طرف، والالتزام باتفاقيات الخرطوم، ورفض التدخل في الشأن الصومالي، واحترام الحدود القائمة بين الصومال ودول الجوار، وبدء حوار مع هذه الدول لإزالة أية مخاوف لديها، والتمسك بمبدأ حسن الجوار، والتعايش السلمي للوصول إلى الحلول السياسية التي تكفل المشاركة في السلطة السياسية، واستئناف الحوار في الخرطوم. وضمن آخر المحاولات لإحلال السلام وتحقيق المصالحة وصل إلى الصومال في 20 ديسمبر مبعوث الاتحاد الأوروبي لويس ميشيل. ولكن يبدو أن هذا المبعوث وصل بعد فوات الأوان. حيث عقد مباحثاته مع قادة الحكومة الانتقالية والمحاكم تحت أصوات قذائف مدافع المورتر التي كانت قد تسيدت الموقف في يوم وصوله. تدهور الموقف بدأت المواجهات بين قوات المحاكم والحكومة في شكل حوادث متفرقة، وقع أولها في 22 يوليو الماضي، ثم أخرى في نوفمبر وأوائل ديسمبر. ثم فرض أسوأ الخيارات نفسه باندلاع الحرب الشاملة والمتصلة بين الطرفين ابتداء من 19 من الشهر الجاري في قطاع بيداوه وتوسعها وامتدادها باتجاه وسط الصومال. ثم ازداد الموقف سوءا بإعلان أثيوبيا في 24 ديسمبر المشاركة في الحرب في مواجهة المحاكم وقالت إنها اضطرت لذلك دفاعاً عن النفس ثم دخلت بالفعل في المعارك بثقل كبير. الأمر الذي فتح الباب واسعاً لجهنم جديدة في الصومال والقرن الأفريقي، يخشى ألا تُبقي ولا تذر. اتفاق ممكن أن تحكيم العقل في الحالة الصومالية الراهنة من شأنه أن يقود إلى نتيجة تبدو صعبة بعد اندلاع الحرب الشاملة. ولكنها سهلة وطوع اليد وقادرة على إعادة الاستقرار المفقود في الصومال إذا توفرت الإرادة لتحقيقها، وإذا جعلت الأطراف الصومالية المصلحة الوطنية هي الأعلى. وتتلخص هذه النتيجة في جمع وتوحيد نتائج مؤتمر نيروبي مع انتصارات المحاكم الإسلامية على أمراء الحرب. ورغم الحرب المستعرة، فان التوصل إلى هذه النتيجة ممكن من خلال تطبيق الاتفاقيات الموقعة بين المحاكم والحكومة في الخرطوم وصنعاء. فهذه الاتفاقيات توصل إليها الطرفان بأنفسهما ورضائهما ولا يحتاجان إلى من يقنعهما بها. ومع ذلك فإن على الجامعة العربية والمجتمع الدولي، بكافة أطرافه، مساعدة الطرفين ودفعهما لتنفيذ ما التزما به في تلك الاتفاقيات، وقيادتهما لمواصلة المفاوضات بشان المسائل المعلقة وعلى رأسها الترتيبات الأمنية والمشاركة في السلطة. خاصة أن الطرفين قد وافقا خلال لقاءاتهما مع المبعوث الأوروبي لويس ميشيل على عقد جولة ثالثة من المفاوضات بينهما في 15 يناير المقبل بالخرطوم. الطرف الأثيوبي من المفهوم أن أثيوبيا عانت من مشكلات سابقة مع بعض الجماعات الإسلامية الصومالية.، وأنها ظلت تخشى من قيام هذه الجماعات بدعم الانفصاليين في إقليم اوغادين الأثيوبي، ومتمردي جبهة تحرير أروميو المعروفة بصلات قديمة مع الصوماليين. وقد زاد هذه المخاوف الاثيوبية بعض التصريحات التي نشرتها بعض وسائل الإعلام في الفترة الماضية منسوبة إلى أحد قادة المحاكم الإسلامية يعلن فيها سعي المحاكم لتوحيد شعوب الصومال ودمج الصوماليين في اثيوبيا وكينيا وتحريرهم، للعيش مع أسلافهم في الصومال. الأمر الذي فهمه البعض إحياء لفكرة الصومال الكبير التي طرحت بعد فترة وجيزة من استقلال الصومال في العام 1960 وهدفت لتوحيد كل الشعوب التي تتكلم الصومالية وتقطن في إقليم اوغادين في اثيوبيا، وفي الإقليم الشرقي من كينيا، وفي جيبوتي. وتثير هذه الفكرة مخاوف كبيرة لدى السلطات الاثيوبية والكينية وسبق أن سببت توتراً وحرباً بين الصومال وأثيوبيا في السبعينات. لكن كل هذه المخاوف الاثيوبية يمكن أن تزول إذا توصلت المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية إلى اتفاق سلام نهائي وشامل بينهما برعاية طرف ثالث مثل الجامعة العربية. فمن المؤكد أن هذه الطرف سيحرص على ضمان أمن اثيوبيا وعدم التدخل في شؤونها الداخلية في مثل هذا الاتفاق. ومن خلال الاتفاقيات التي تم توقيعها بين المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية الصومالية في الخرطوم أظهرت المحاكم استعدادها لتقديم مثل هذه الضمانات لأثيوبيا من خلال نصوص واضحة وردت في تلك الاتفاقيات تؤكد الاتفاق على التعايش السلمي مع البلدان المجاورة، واحترام الحدود القائمة بين الصومال ودول الجوار، وبدء حوار مع هذه الدول لإزالة أية مخاوف لديها، والتمسك بمبدأ حسن الجوار. وهذا ما أكده في قول صريح رئيس المجلس التنفيذي للمحاكم الإسلامية خلال زيارته إلى اليمن في ديسمبر الجاري عندما قال أن المحاكم مستعدة للتفاوض مع اثيوبيا. احد السبيلين خياران لا ثالث لهما، ينتظران الصومال، هما خيار السلام وخيار الحرب. الخيار الأول تم وضع أسسه بالحبر على الورق، أما الثاني فقد كُتب بالدم على ارض الواقع. دم عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الذي سقطوا في أقل من أسبوع في ساحات المعارك، وخلفهم ملايين الأبرياء المفزوعين وهم يبحثون عن ملاذ بعيد عن طاحونة الموت والرعب والدمار التي دارت منذ 15 عاماً في الصومال وأبت أن تتوقف. وهي الآن تترشح لامتداد جديد في المساحة والزمن نخشى أن يكون طويلاً.. طويلاً جداً. وحتى لايحدث ذلك لامفر من الإنصات لصوت العقل ودعوات الحكمة التي جاء آخرها على لسان الأخ الرئيس علي عبدالله صالح في الاتصال الهاتفي الذي تلقاه في يوم أمس الأول من الرئيس عبدالله يوسف أحمد.. والتي أكد خلالها أهمية العودة الى طاولة المفاوضات والتمسك بالحوار واللجوء الى الحلول السلمية والوقف الفوري لأعمال العنف والمواجهات المسلحة.. خياران هما السلام والاستقرار، وجحيم الحرب والهلاك.. وكلاهما متاح. فهل يتيقظ أهل الصومال لاختيار السلام؟ نرجو أن يتم ذلك. ونرى أن ذلك يقتضي مساعدة فاعلة من المجتمع الإقليمي والدولي.. وليعلم زعماء التكوينات المختلفة في ذلك البلد المنكوب إنهم إذا اختاروا سعير الحرب فلن يستطع أحد أن يقودهم إلى جنة السلام بالسلاسل.