بعد مرور أربع سنوات على غزو العراق لا بد من وقفة للتبحر في نتائج حدث وصفه عدد من المحللين الاستراتيجيين بأنه الكارثة الأبرز التي طبعت مطلع الألفية الثالثة. لقد بينت سنوات الاحتلال المنصرمة أن العراق كان يضم مجتمعاً موحداً وهو اليوم يضم مجتمعاً مقسماً إلى طوائف وملل ونحل. كان العراق يعيش تحت سلطة دولة واحدة وهو اليوم يعيش تحت سلطة دويلات تدين بالولاء للمحتل ولا تستطيع الدفاع عن نفسها في حال رحيله. كان خالياً من المليشيات وهو اليوم يضم عدداً كبيراً منها. كان يتمتع باستقرار أمني كبير وهو اليوم مرتع للمجرمين والقتلة واللصوص وعصابات الموت والاغتيال.كان يسيطر على ثرواته الطبيعية وهو اليوم عرضة لنهب نفطي منظم من المنتظر أن يشرع بقانون يرهن الثروة العراقية لأجيال قادمة. كان قادرا على ردع أعدائه فصار ساحة لهم. كان معينا في الصراع العربي الإسرائيلي لأشقائه فصار عبئا امنياً عليهم.كان ضابطا للفتنة الطائفية فصار مصدرا لانتشار الفتنة في محيطه الأقرب والأبعد. كان يضم أهم نخبة علمية في العالم العربي فصار فقيراً في علمه بعد تحطيم البنية التحتية التربوية واغتيال الكادرات والعلماء وهروب من تبقى منهم على قيد الحياة إلى الخارج. على الصعيد السياسي كان العراق يعيش في ظل نظام الحزب الواحد فإذا لكل منطقة وإقليم ومحافظة حزبها الواحد الأحد بلا تعددية ولا شراكة ولا من يحزنون. كان درعاً للقومية العربية فصار حصناً للقوميات والطوائف والملل المناهضة للعرب. كان يضم جيشا واحداً ضامنا لسلامة الاراضي الوطنية فصار يضم جيوشاً ومليشيات وفرق موت تهدد يوميا وحدة الأرض والشعب. باختصار كان العراق بلداً فصار بلدانا مجزأة متناحرة. بعد أربع سنوات لا شيء يستحق الاحتفال في هذا البلد الذي يودع أبناءه يوميا عبر مسيرات جنائزية لا تنقطع على مدار الساعة... بعد أربع سنوات احتلال تكتسي ارض السواد لونا أسود قاتما وتعيش حزنا لا نظير له إلا في غزو المغول قبل أكثر من ثمانية قرون. بيد أن لعنة العراق لا تكف عن ضرب المحتل وأعوانه بسياط الهزيمة والعار.هكذا كان المحتل الأمريكي مرهوب الجانب قادرا على ردع من يشاء ساعة يشاء. بعد الاحتلال تمردت أمريكا اللاتينية على استبداد اليانكي وخرج منها حكام اكتسبوا ثقة شعوبهم بسبب عدائهم لسياسة بوش ومحافظيه الجدد.وفي أوروبا سقطت الحكومة الأسبانية المشاركة في الاحتلال وعاد اليسار إلى السلطة وفي ايطاليا سقط برلسكوني احد قادة التحالف العدواني وعاد اليسار إلى السلطة بزعامة رومانو برودي وفي بريطانيا يحصي طوني بلير أيامه الأخيرة في الحكم وفي استراليا لن تصمد الحكومة في أول استحقاق انتخابي قادم. وفي الشرق الأوسط سقطت مشاريع الإصلاح والدمقرطة و تصاعد نفوذ التيار الإرهابي وعادت أفغانستان إلى التمرد وانهار مشروع إسقاط "محور الشر السوري والإيراني والكوري" فها هو بوش يقايض «بيونغ يانغ» وفق الشروط الكورية ويطلب النجدة من بشار الأسد واحمدي نجاد في العراق في حين يترك الأمريكي أنصاره في بلدان عربية عديدة عراة "يقلعون شوكهم" بأيديهم. وفي الولاياتالمتحدة نفسها هزم المحافظون الجدد الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ ويتعرض بوش لتهديد الكونغرس في كل لحظة بوضع يده على الأزمة العراقية وبالتالي برمجة الانسحاب من العراق. قبل حرب العراق كانت الولاياتالمتحدةالامريكية تقدم نفسها بوصفها حاجة ماسة للامن والسلام العالمي وهي اليوم المصدر الأبرز لتهديد السلام والأمن في العالم لا بل يمكن القول أن العالم يشكو من مرض اسمه المحافظون الجدد وهؤلاء يختفون عن صدارة المسرح السياسي الواحد تلو الآخر فقد عاد رامسفيلد إلى منزله وانتقل وولوفيتز إلى البنك الدولي ووقع سكوتر ليبي في قبضة القضاء وعاد ريتشارد بيرل إلى التدريس الجامعي وتقاعد جون بولتون قبل الأوان ومن المنتظر أن يلحق به قريبا زلماي خليل زاد في حين انشق فوكوياما عن هذه الجماعة في وقت مبكر. وإذا كان ما زال لهؤلاء نفوذ لا يستهان به من خلال نائب الرئيس ديك تشيني وما زالوا يلوحون بحرب جديدة على إيران ويهددون باستخدام الأسلحة النووية فان إيقاع تهديداتهم يزيد في عزلتهم و ويمعن في تطويقهم داخل المؤسسات الأمريكية. يبقى التذكير بأقوال عديدة جرت على لسان أكثر من مسؤول أمريكي تفيد بان حرب العراق هي الكارثة الأكبر التي ضربت السياسة الخارجية الأمريكية منذ حرب فيتنام مع فارق جوهري هو أن الفيتناميين كانوا يستفيدون من دعم الصين والاتحاد السوفييتي على غير صعيد في حين يقاتل العراقيون باللحم الحي دون عون يذكر من شقيق أو صديق. ومع ذلك يلاحظ أن الخسائر العسكرية الأمريكية في تصاعد مستمر رغم التقدم الكبير في التكنولوجيا الحربية منذ حرب فييتنام. فبدلاً من آلاف القتلى هناك عشرات الآلاف من الجرحى في صفوف الجيوش الامريكية ناهيك عن المرضى والمعطوبين نفسياً والذين يقدر عددهم بثلث العاملين او الذين عملوا في العراق. والمدهش بعد كل ما تقدم أن الرئيس الأمريكي جورج بوش يتحدث عن ضرورة اكمال المهمة والانتصار في العراق وعن زيادة عديد العسكريين في هذا البلد ذلك أن الانسحاب من ارض الرافدين سيعد "انتصارا للارهاب والارهابيين" ويشكل خطرا محتوما "على الحكومة العراقية الديموقراطية" بحسب تصريحات الرئيس بوش ومساعديه. إزاء هذا الادعاء يصعب على المرء الجزم فيما إذا كان القول يصدر عن كبرياء مجروحة أم عن سوء تقدير خرافي في الحالتين يترتب على مثل هذه الاقوال المزيد من المآسي والكوارث على العراقيين وعلى كل من يمسك بزمام الأمور في بلادهم..