هل حصل تغيير جوهري في الموقف الأميركي من ايران... أم أن الأمر مجرد تغيير ذي طابع تكتيكي فرضته رغبة ادارة الرئيس بوش الابن في الظهور في مظهر المستعد للذهاب بعيداً في التفاوض مع طهران في شأن كل ما له علاقة ببرنامجها النووي بغية إحراج الجانب الايراني وكشف عن رغبته في المماطلة وكسب الوقت ليس إلاّ؟ من ينادِ بوجهة النظر هذه يعتقد أن كل الهدف من الانفتاح الأميركي على ايران هو التمهيد لضربة عسكرية لايران تستهدف المواقع ذات العلاقة ببرنامجها النووي. ويعتبر المؤمنون بهذه النظرية أن ليس أفضل من التفاوض الأميركي المباشر مع ايران لكشف أوراقها والحصول على دلائل تبرر توجيه الضربة «التي لا قيامة من بعدها» والتي لا تتطلب انزالاً برياً في الأراضي الايرانية على غرار ما حصل في العراق في العام 2003. بغض النظر عن الاختلافات في وجهات النظر، وهي اختلافات يبدو أنها بلغت الادارة الأميركية نفسها، لا يمكن إلا اعتبار مشاركة وليم بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأميركية في جولة المفاوضات مع ايران بأنه تطور بالغ الأهمية. قبل كل شيء، إنها المرة الأولى التي تعقد فيها محادثات على هذا المستوى بين الجانبين منذ نحو ثلاثة عقود، أي منذ القطيعة الدبلوماسية بين واشنطنوطهران نتيجة احتلال السفارة الأميركية في العاصمة الايرانية في نوفمبر من العام 1979. احتجز الايرانيون وقتذاك اثنين وخمسين دبلوماسياً أميركياً طوال أربعمائة وأربعة وأربعين يوما. صحيح أن الجانب الأميركي شدّد على أن بيرنز، وهو الرجل الثالث في الخارجية، سيكتفي بدور «المستمع» خلال المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي ممثلا بخافيير سولانا ومسؤولين من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا من جهة وسعيد جليلي المسؤول عن الملف النووي الايراني من جهة أخرى، إلاّ أن الصحيح أيضا أن جولة المفاوضات كان يمكن أن تبقى في الاطار الروتيني لولا وجود المسؤول الأميركي في جنيف وجلوسه الى جانب سولانا والمسؤولين الآخرين في الدول الخمس التي تتعاطى مع الملف النووي الايراني. ما قد يكون مهماً أيضاً أن مجيء الرجل الثالث في الخارجية الأميركية الى جنيف يشير الى أن هناك مفاوضات سرية أميركية- ايرانية تجري منذ فترة. وقد مهدت المفاوضات السرية لانضمام بيرنز الى المفاوضين الآخرين في العلن. ولولا تحقيق المفاوضات بعض التقدم، لما كانت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وقعت بدورها العرض الأخير الذي تسلمته ايران في شأن برنامجها النووي. وحمل العرض الذي تضمن حوافز محددة في مقابل تخلي طهران عن تخصيب اليورانيوم تواقيع وزراء الخارجية في الدول الأخرى ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، اضافة الى توقيع وزير الخارجية الألماني. جاء توقيع رايس لتأكيد مدى جدية العرض والحوافز التي يتضمنها والرغبة الأميركية في تفادي مواجهة عسكرية مع ايران. تبدو المفارقة وسط كل ما يجري أن المتشددين في طهرانوواشنطن يلتقون في مكان واحد. هذا المكان هو اعتبار أن الادارة الأميركية عاجزة عن الإقدام على أية خطوة ذات طابع عسكري في اتجاه ايران وأن الأخيرة تستطيع الرهان على الوقت ومتابعة برنامجها النووي من دون أي رادع. أكثر من ذلك، يرى المتشددون في العاصمتين أن اسرائيل لا تستطيع بدورها الإقدام على أي عمل من أي نوع كان ما دامت الولاياتالمتحدة غير مستعدة لتوفير غطاء عسكري للدولة العبرية التي لا تمتلك ما يكفي من الوسائل العسكرية التي تضمن لها مهاجمة عدد كبير من الأهداف الايرانية وتدميرها. كان ملفتاً أن جون بولتون الذي كان الى ما قبل فترة قصيرة مندوباً للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة وقبل ذلك مسؤولاً عن ملف أسلحة الدمار الشامل في الخارجية لم يجد ما يقوله سوى انتقاد ادارة بوش الابن بسبب انفتاحها على ايران. قال بولتون الذي يعتبر من عتاة المحافظين الجدد، بعدما اعتبر أن الرئيس بوش الابن لم يعد يأخذ سوى وجهة نظر رايس، أنه «يبدو أن عهد أوباما بدأ قبل ستة أشهر من دخوله البيت الأبيض». بات بولتون يرى أن بوش الابن ينفّذ حالياً سياسات المرشح الديموقراطي الداعي الى الدخول في حوار مع ايران وذلك حتى قبل أن يفوز الأخير في انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل. في كل الأحوال، لا يمكن عزل الانفراج بين واشنطنوطهران عن جهود دؤوبة بذلتها دول عربية من بينها قطر وسلطنة عُمان بهدف واضح كل الوضوح هو تفادي مواجهة عسكرية في المنطقة. مثل هذه المواجهة كارثة على كل الأطراف. على ايران، على الولاياتالمتحدة وحلفائها، وخصوصاً على دول المنطقة نفسها. ما يشير الى أن أجواء الانفراج يمكن أن تكون جدية تراجع أسعار النفط في الأيام القليلة الماضية. ولكن يبقى أن هذه الأجواء لا تصلح سوى مقدمة لخطوات أخرى لا بد منها كي يستمر الانفراج ويتحول حقيقة ثابتة. لا مفر من أن تؤكد ايران بطريقة أو بأخرى أن لا نية لديها لامتلاك السلاح النووي. من دون حصول المجتمع الدولي على مثل هذا التأكيد سيظل احتمال المواجهة وارداً بغض النظر عما سيحصل داخل الولاياتالمتحدة، بغض النظر عما اذا كان جون ماكين سيخلف بوش الابن أم أن الرئيس الجديد سيكون أوباما. لا بدّ في النهاية من أن تجد ايران طريقة لتقديم الضمانات بما يحفظ لها ماء الوجه. الأمر ليس متعلقاً بإسرائيل بمقدار ما أنه متعلق أيضاً بانتشار السلاح النووي في كل الشرق الأوسط. ايران نووية يعني تركيا نووية وسعودية نووية ومصر نووية... هذا إذا كنا نريد حصر المسألة بالدول الثلاث هذه.