أثار كتاب الأستاذ الأمريكي بول كينيدي «صعود وأفول القوى الكبرى» اهتماماً كبيراً وجدلاً عاصفاً ربما لم يتوقعه مؤلفه عند إصداره في منتصف الثمانينات وكنت أحد الذين قرؤه بشغف لأنه زودني بمعلومات أساسية عن دول انطلقت من عقالها واتسعت - على حساب الاخرين طبعاً لأنها كانت أقوى و أذكى منهم - ومن تلك كانت الإمبراطوريات التي سادت الدنيا منذ القرن السادس عشر بريطانيا، روسيا، تركيا وأمريكا وغيرها. وكنت من العديدين الذين اعجبوا به و أيضاً بتوقعاته بسقوط الاتحاد السوفياتي ومعه الشيوعية مع أن الدلائل كانت تشير إلى ذلك. و أيضاً الولاياتالمتحدة التي كانت في أوج مجدها ولديها عام 1985 طموحات عدة للمزيد من التقدم والهيمنة على الشعوب بفضل جبروتها العسكري من حاملات الطائرات التي تكلف حالياً خمسة مليارات دولار إلى الطائرات الأحدث التي تكلف أكثر من مائتي مليون دولار للقطعة. (وقد أعلنت أنها ستزود بها إسرائيل خلال الأعوام القليلة القادمة). وفي الأيام الماضية أوضح كينيدي وهو مغترب بريطاني الأصل أن الأزمة المالية الجارية «ستضعف دور أمريكا كقوة عالمية في حين ستعزز وضع الدول الآسيوية.» وقال بالتحديد: «إذا انقضت الأزمة الراهنة بعد ثلاثة أو خمسة أعوام سنرى وقتها أن الصين والهند وباقي آسيا سيكون لها موقف أقوى في صندوق النقد وفي التنسيق بين البنوك المركزية.» ولن أتطرق في الوقت الحاضر إلى أسباب أفول الدول الكبرى ومنها روسيا وقبلها بريطانيا وفرنسا في عهد الاستعمار والإمبريالية يعني احتلال وسيطرة اقتصادية كما كانت تفعل في آسيا و أفريقيا و دول الهند الغربية و البحر الكاريبي. لكن حديثه عن الصين جاء في وقته لأن بعض المراقبين خلصوا إلى القناعة بأن «حل الأزمة المالية الراهنة التي يمر بها النظام المصرفي فى الدول الغربية قد يكون بيد الصين التي تمتلك احتياطيات من العملة الصعبة تتجاوز تريليوني دولار» المبلغ يساوي مليونين اثنين ضرب مليون دولار لان التريليون يعادل ألف مليار والمليار بدوره يساوي ألف مليون. وقد جمعته الصين بفضل جهودها وصادراتها وجودة بضائعها وتدني أسعارها واشترت بأجزاء من ثروتها سندات حكومية أمريكية أضحت بواسطتها تمتلك شريحة خطيرة من الثروة الأمريكية لا تستطيع أمريكا أن تستغني عنها أو تسددها في يوم وليلة ولا في بضع سنين لأن القضية أصبحت أضخم مما يتصورها الإنسان في العالم الثالث الذي لا يملك قوت يومه دائماً مع جالون من الماء النظيف ولتر من الحليب المعقم له و لبنيه. وكما يقول أستاذ الاقتصاد الأمريكي ارفند سوبر امانيام الهندي الأصل المستوطن أنه سيكون من الأمور المتوقعة قيام الصين بمد يد المعونة بواسطة الثروة النقدية إلى أمريكا المحتاجة لها قريباًً بحوالي خمسمائة مليار دولار على الأقل. و في هذا تحول تاريخي هائل. واستشهد ببعض ما يقال الآن. كتب مدير معهد بيتر سون للاقتصاد العالمي في الولاياتالمتحدة «إنه يمكن للولايات المتحدة طلب قرض من الصين لإنقاذ نظامها المالي.» و أضاف بأن «الصين تقوم عملياً بمساعدة الاقتصاد الأمريكي منذ عدة سنوات عن طريق شراء الديون الحكومية الأمريكية.» و أيده في ذلك الأستاذ زهاو رئيس جامعة ريمين الصينية في بكين وأضاف: «لكن الصين غير قادرة وحدها على تحمل كل عبء حل هذه الأزمة وأن على الاقتصاديات الصاعدة الأخرى مثل روسيا والهند والبرازيل المشاركة في تحمل هذا العبء. «ومن الواضح أن من صالح الصين الاسهام في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي لأسباب جلية معروفة للمراقب وحتى الطالب الجامعي فهي أكبر اقتصاد عالمي وأكبر مستورد للصادرات الصينية وأكبر مقترض عملياً من الصين وبائع للسندات الحكومية المعروفة باسم بوند. ولأن الهند المجاورة تمتلك حالياً ما يقارب ستمائة مليار دولار في الاحتياطي فإن بمقدورها التفاهم على تزويد الدول ببعض المال كما أن لديها ربما أضخم مخزون من الذهب في خزانتها الرسمية وتحت بلاطات البيوت فهي تستورد سنوياً ثمانمائة طن من الأصفر الرنان وليس هناك ما يشير إلى أنها قد تخفف من نهمها له. لكن الدول وعلى رأسها أمريكا كما نعلم لا تقرض أحداً بدون شروط – مجحفة أحياناً – تجارياً وسياسياً كما أنها تمتلك ناصية البنك الدولي وبيدها فيتو لمنع البنك من إقراض أية دولة كما كانت ولا تزال تفعل. لذلك أرى أمامي شريطاً جديداً من العلاقات الدولية يكاد أن يكون منعطفاً تاريخياً في العلاقات الدولية بانتقال- ولو بعد حين- الكفة الاقتصادية ومعها السياسية من الغرب إلى الشرق، كما انتقلت من لندن إلى واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية 1945. ولو أن من صالح الصين إسعاف الاقتصاد الأمريكي، إلا أنها لن تقرض أمريكا بدون قيد أو شرط و على رأس مطالبها ستكون جزيرة تايوان الثرية التي حرمتها أمريكا من السيادة عليها منذ قيام الشيوعية في البر الصيني وهي اليوم واحدة من أغنى الدول مع أنها لا تتمتع بمقعد في الأممالمتحدة والمؤسسات الأخرى الهامة – إجمالي الدخل السنوي سبعمائة مليار دولار والفردي ثلاثين ألف وعدد السكان 23 مليوناً. ولو كانت الدول العربية الثرية جداً قادرة على توحيد سياساتها و أهدافها ربما تمكنت من خوض هذه التجربة لتحقيق بعضها بواسطة إبداء الاستعداد بإقراض أمريكا وبعض الدول الغربية – أيضاً بشروط مهما كانت متهاودة لتدعيم مصالحها. ومن بين الشروط التي قد تضعها الصين بالإضافة إلى مصير تايوان إلغاء قيود على قيامها بشراء أصول شركات أمريكية مع سلسلة طويلة من المطالب. وفي ذلك يشير الأستاذ في الجامعة الصينية في هونج كونج ويللي ليام إلى أن «موازين القوى في العالم تتغير و الصينيون يشعرون بالارتياح إزاء هذا التغيير دون المبالغة في الإعلان عن ذلك كما يرون أن الأزمة الحالية تؤكد سلامة نموذجهم الاقتصادي. وذلك صحيح لأن النموذج الحالي – وقد يتغير أو يتعدل – خليط من حرية السوق وسهولة الاستثمار الأجنبي وغياب الإرهاب والرقابة الحكومية ومحاربة الفساد بضرب كبار المرتشين. على أي حال نشهد حالياً إشارات إلى مفترق طرق بالغ الأهمية في التاريخ الحديث يذكر إلى حد ما ببروز القوتين العظميين روسيا و أمريكا بعد اندحار ألمانيا وانسحاب بريطانيا من الساحة عام 1945. وأيضاً كبوة روسيا وما يشير إلى نهوضها منها وبداية ترنح أمريكا والواحدية القطبية.